اذكروني أذكركم

قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)[1].

بعد استعراض جانب من النعم الإلهية في الآية السابقة وهي قوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[2]، تذكر الآية التي بعدها أن هذه النعم تستدعي الشكر، وبالاستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حق شكر الباري، وهي قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)[3].

من الواضح أن عبارة فاذكروني أذكركم لا تشير إلى معنى عاطفي بين الله وعباده كما يقول الناس لبعضهم ذلك، بل تشير إلى أصل تربوي وتكويني، فمعنى (اذكروني): اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرّات؛ لتطهِّر أرواحكم وأنفسكم، وتكون قابلة لشمول الرحمة الإلهية.

ذكركم لهذه الذات المقدسة يجعل تحرككم أكثر إخلاصاً ومضاءً وقوةً واتحاداً.

كذلك المقصود من (الشكر وعدم الكفران): ليس تحريك اللسان بعبارات الشكر، بل المقصود استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خُلقت له، كي يؤدي ذلك إلى زيادة الرحمة الإلهية.

أقوال المفسرين في تفسير (فاذكروني أذكركم)

للمفسرين آراء متنوعة في تفسير هذه الآية، وفي بيان كيفية ذكر العبد وذكر الله، وقد لخّصها الفخر الرازي في تفسيره في عشرة وجوه:

1 - اذكروني (بالإطاعة) كي أذكركم (برحمتي)، والشاهد على ذلك قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[4].

2 - اذكروني (بالدعاء) كي أذكركم (بالإجابة)، ودليل ذلك قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[5].

3 - اذكروني (بالثناء والطاعة) لأذكركم (بالثناء والنعمة).

4 - اذكروني في (الدنيا) لأذكركم في (الآخرة).

5 - أذكروني في (الخلوات) كي أذكركم في (الجمع).

6 - أذكروني (لدى وفور النعمة) لأذكركم في (الصعاب).

7 - أذكروني (بالعبادة) لأذكركم (بالعون)، والشاهد على ذلك قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[6].

8 - أذكروني (بالمجاهدة) لأذكركم (بالهداية)، الشاهد على ذلك قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[7].

9- أذكروني (بالصدق والإخلاص) لأذكركم (بالخلاص ومزيدا للاختصاص).

10- أذكروني (بالربوبية) لأذكركم بالرحمة، ودليل ذلك مجموع آيات سورة الحمد[8].

كل واحدة من التفاسير المذكورة هي مظهر من مظاهر المعنى الواسع للآية، ولا تقتصر هذه المظاهر على ما سبق فيشمل المعنى أيضا: أذكروني (بالشكر) لأذكركم (بزيادة النعمة) كما ورد في قوله سبحانه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)[9].

كل ذكر لله - كما قلنا - له أثر تربوي في وجود الإنسان، إذ يجعل روحه مستعدة لنزول بركات جديدة متناسبة مع طريقة الذكر.

المقصود من ذكر الله:

من المؤكَّد أن المقصود من ذكر الله ليس بتحريك اللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب، الهدف هو التوجّه بكل الوجود إلى ذات البارئ سبحانه، ذلك التوجّه الذي يصون الإنسان من الذنب ويدعوه إلى الطاعة.

ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن المعصومين: أن ذكر الله ليس باللسان فحسب، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصية لعلي (عليه السلام): (ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله تعالى عنده وتركه)[10].

على أية حال، لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الاقتران، فالله سبحانه على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه تكريم ما بعده تكريم للإنسان[11].

مجلة بيوت المتقين العدد (54)

 


[1] البقرة: 152.

[2] البقرة: 151.

[3] البقرة: 152.

[4] آل عمران: 132.

[5] غافر: 60.

[6] الفاتحة: 5.

[7] العنكبوت: 69.

[8] التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 4، ص 144، مع شيء من التصرف.

[9] إبراهيم: 7.

[10] كتاب الخصال، نقلا عن تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 140.

[11] تفسير الامثل: ج1، ص430-433.