رأي العلماء في سبب الغيبة

 المطروح عند الشيعة الإمامية، أن السبب المهم في الغَيبة هو الخوف من القتل، وقد روى الشيخ الكليني(قدس سره) في الكافي، والشيخ الصدوق (قدس سره) في إكمال الدين، مجموعة روايات عن الإمام الصادق(عليه السلام)، تشير إلى أن سبب الغَيبة هو التقية والخوف على الحياة ،كما سوف نذكرها بالتفصيل في هذا المختصر إن شاء الله تعالى.

وقال الشيخ المفيد (قدس سره) في الإرشاد: خلف الحسنَ ابنُه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره، لصعوبة الوقت وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، لِما شاع من مذهب الشيعة أن الإمامة فيه وعُرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته[1].

وعدّ الشيخ المفيد (قدس سره) أن الظروف المحيطة بغَيبة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، أصعب بكثير من الظروف التي أحاطت بالأئمة السابقين من أهل البيت(عليهم السلام)، الذين لم يختفوا عن الأنظار، وكانوا يتحصنون بالتقية، وأن سلاطين الزمان كانوا يعلمون قيام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) بالسيف، ولذلك كانوا أحرص على ملاحقته واستئصال شأفته، وأن السبب الذي كان يمنعه من الخروج هو قلة الأعوان والأنصار.

وأكد السيد المرتضى (قدس سره): السبب في الغَيبة هو إخافة الظالمين له، ومنعهم يده من التصرف فيه فيما جعل إليه التصرف فيه ؛ لأن الإمام إنما ينتفع به النفع الكلي إذا كان متمكناً مطاعاً، مخلى بينه وبين أغراضه، ليقود الجنود، ويحارب البغاة، ويقيم الحدود، ويسد الثغور، وينصف المظلوم، وكل ذلك لا يتم إلا مع التمكن. فإذا حيل بينه وبين أغراضه من ذلك سقط عنه فرض القيام بالإمامة.

وإذا خاف على نفسه، وجبت غَيبته، والتحرز من المضار واجب عقلاً وسمعاً، وقد استتر النبي(صلى الله عليه وآله) في الشعب، وأخرى في الغار، ولا وجه لذلك إلا الخوف والتحرز من المضار[2]

وحصر الشيخ الطوسي (قدس سره) أسباب الغَيبة في الخوف بقوله: لا علة تمنع من ظهوره(عليه السلام) إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار، وكان يتحمل المشاق والأذى، فإن منازل الأئمة(عليهم السلام) وكذلك الأنبياء(عليهم السلام)، إنما تعظم منزلتهم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى[3].

ومن الواضح، أن الخصوصية التي أشار إليها هؤلاء الأعلام في الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) دون غيره من الأئمة(عليهم السلام)، هي كونه آخرهم، ومن ثم، فإن ستره حتى يتمكن من القيام بدوره، أوجب من ظهوره وقتله دون الوصول إلى غايته.

وما هو معلوم، أن إقامة هذا الأمر ليس موقوفاً على وجود القائد فقط، وإنما هناك ظروف موضوعية لها علاقة بالواقع التاريخي أيضاً، فإن كانت الظروف مناسبة والنفوس مهيأة خرج، وإلا وجب حفظه إلى حين.

ولكي نقرّب الصورة السابقة، ونتعرف بشكل ملموس على سبب الغَيبة، نمثل الأمر في مثال تصويري، يمكن أن يحاكي الواقع، فلو فرضنا أن هناك منطقة تعيش في الظلام، وقد حاولت الحكومة المحلية أو إدارة البلدية، أن تُنير لهم الشارع الرئيسي في البلدة حتى يعتادوا على النور، ومن ثم تقوم بإنارة المنطقة كاملة، وقد أضاءت هذه الإدارة الشارع بمصباح، وجعلت في مستودعها أحد عشر مصباحاً احتياطياً، حتى إذا تلف المصباح يمكن تبديله، والأمر الطبيعي أن أهل هذه المنطقة يجب أن يكونوا أكثر حرصاً من غيرهم على حفظ هذا المصباح، ولكن الذي حصل أنهم تجرأوا وقاموا بكسر هذا المصباح، ورغم ذلك لم تعاقبهم الإدارة، لحرصها على مصلحتهم، فقامت بإحضار المصباح الثاني من المستودع وجعلته مكان الأول، وبنفس الطريقة تم الاعتداء عليه من جديد وقاموا بكسره، ولأن هذه الإدارة كانت تتعامل بحكمة متناهية وبسعة صدر لا حدود لها، قامت بإحضار المصباح الثالث وجعلته مكان الثاني، ثم تم كسره بنفس الطريقة، وهكذا الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر، حتى لم يبق في المستودع إلا مصباح واحد، فهل بعد ذلك يكون من الحِكمة أن تحضر الإدارة المصباح الأخير، الذي لا تمتلك غيره لتُعرِّضه أيضاً للكسر، فلابد حينئذ أن تتركهم يعيشون في هذا الظلام، حتى يعرفوا قيمة النور ويأتوا زحفاً إلى هذه الإدارة، لتضع لهم هذا المصباح.

هذا المثال التصويري يحاكي جهل هذه الأُمّة بقيمة أهل البيت(عليهم السلام)، الذين جعلهم الله تعالى منارات لهداية الناس، فبيَّن الله تعالى فضلهم ومكانتهم واختارهم أئمة وقادة للمؤمنين. نحن قد لا نفهم الحِكمة من جعل الأئمة اثني عشر دون زيادة، ولكننا لا نفهم أيضاً أن يكون عددهم غير متناهٍ، فطالما جاءت الأخبار مُؤكِّدة على كون الأئمة(عليهم السلام) من بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) اثني عشر، بما صحّ عند كل الفرق والمذاهب، فإن رحمة الله تقتضي الحفاظ على آخرهم، ولولا تلك الرحمة السابقة من الله، لكان يكفي أن يؤخذ الله هذه الأُمّة بدم الحسين(عليه السلام)، كما آخذ قوم صالح (عليه السلام) بسبب ناقة، ومن هنا يمكننا أن نفهم الغَيبة، بوصفها مظهراً لرحمة الله تعالى بهذه الأُمّة.

 


[1] الإرشاد للشيخ المفيد:ج2، ص336.

[2] رسائل الشريف المرتضى:ج2،ص295.

[3] الغيبة للشيخ الطوسي:ص329.