(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1].
سبب النزول:
يذكر القرآن الكريم حول مسألة المعاد بعد قصة عُزير قصة أخرى عن إبراهيم (عليه السلام) حيث يذكر معظم المفسّرين والمؤرّخين في تفسير هذه الآية الحكاية الآتية:
مرّ إبراهيم (عليه السلام) يوماً على ساحل البحر فرأى جيفة مرمية على الساحل نصفها في الماء ونصفها على الأرض تأكل منها طيور وحيوانات البر والبحر من الجانبين وتتنازع أحيانا فيما بينها على الجيفة، عند رؤية إبراهيم(عليه السلام) هذا المشهد خطرت في ذهنه مسألة يود الجميع لو عرفوا جوابها بالتفصيل، وهي كيفية عودة الأموات إلى الحياة مرّة أخرى، ففكّر وتأمّل في نفسه أنّه لو حصل مثل هذا الحادث لبدن الإنسان وأصبح طعاما لحيوانات كثيرة، وكان بالتالي جزء من بدن تلك الحيوانات، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسد الإنساني نفسه إلى الحياة ؟
فخاطب إبراهيم (عليه السلام) ربّه وقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى).
فأجابه الله تعالى: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بالمعاد؟ فقال (عليه السلام): (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
فأمره الله أن يأخذ أربعة طيور ويذبحها ويخلط لحمها، ثمّ يقسّمها عدّة أقسام ويضع على كل جبل قسما منها، ثمّ يدعو الطيور إليه، وعندئذٍ سوف يرى مشهد يوم البعث، فامتثل إبراهيم (عليه السلام) للأمر واستولت عليه الدهشة لرؤيته أجزاء الطيور تتجمع وتأتيه من مختلف النقاط وقد عادت إليها الحياة.
والجدير بالذكر: إنّ إبراهيم (عليه السلام) طلب من الله تعالى المشاهدة الحسيّة للمعاد والبعث لكي يطمئن قلبه، ولا شك أن ضرب المثل والتشبيه لا يجسّد مشهدا ولا يكون مدعاة لتطمين الخاطر، وفي الحقيقة أنّ إبراهيم كان مؤمناً عقلاً ومنطقاً بالمعاد، ولكنّه كان يريد أن يُدرك ذلك عن طريق الحسّ أيضاً.
التفسير:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)، هذه الآية تتحدّث عن موضوع البعث، وتعبير (أَرِنِي كَيْفَ...) أنّه طلب الرؤية والشهود عياناً لكيفية حصول البعث لا البعث نفسه.
(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، كان من الممكن أن يتصوّر بعضهم أنّ طلب إبراهيم (عليه السلام) هذا إنّما يدلّ على تزلزل إيمان إبراهيم (عليه السلام)، ولإزالة هذا التوهّم أوحى إليه السؤال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟.
لكي يأتي جوابه موضحاً الأمر، ومزيلاّ كلّ التباس قد يقع فيه بعضً في تلك الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم (عليه السلام): (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
يُفهم من هذه الآية أيضا على أنّ الاستدلالات العملية والمنطقية قد تؤدي إلى اليقين ولكنّها لا تؤدي إلى اطمئنان القلب، إنّها ترضي العقل لا القلب ولا العواطف. إنّ ما يستطيع أن يرضي الطرفين هو الشهود العيني والمشاهد الحسيّة.
والتعبير بالاطمئنان القلبي يدلّ على أنّ الفكر قبل وصوله إلى مرحلة الشهود يكون دائماً في حالة حركة وتقلب ولكن إذا وصل مرحلة الشهود يسكن ويهدأ.
(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا)، (صرهن) من (الصور) أي: التقطيع، أو الميل، أو النداء، ومعنى التقطيع أنسب، أي: خذ أربعة من الطير واذبحهن وقطعهن واخلطهن.
لقد كان المقصود أنّ يشاهد إبراهيم (عليه السلام) نموذجاً من البعث وعودة الأموات إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها.
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا)، وهذا دليل على أن الطيور قد قطعت أولاً وصارت أجزاء، ولعلّ الذين قالوا إنّ صرهن إليك تعني استمالتهن وايناسهن قد غفلوا عن لفظة (جزءاً) هذه، وكذلك الهدف من هذا العمل.
وبذلك قام النبي إبراهيم (عليه السلام) بهذا العمل وعندما دعاهن تجمعت أجزائهن المتناثرة وتركبت من جديد وعادت إلى الحياة، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم (عليه السلام) أنّ المعاد يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جداً.
ويرى بعضهم أنّ كلمة (سَعْيًا) تعني أنّ الطيور بعد أنّ عادت إليهن الحياة لم يطرن، بل مشين مشياً إلى إبراهيم (عليه السلام) لأنَّ السعي هو المشي السريع، وينقل عن الخليل بن أحمد الأديب المعروف أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يمشي عندما جاءت إليه الطيور، أي إن (سَعْيًا) حال من إبراهيم لا من الطيور، ولكن بالرغم من كلّ ذلك فالقرائن تُشير إلى أنّ (سَعْيًا) كناية عن الطيران السريع[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (78)