دعا النبي (صلى الله عليه وآله) نصارى نجران إلى الإسلام، فأقبلت شخصياتهم وأعلامهم وعلماؤهم، وكان عددهم يربو على السبعين، ولما وصلوا المدينة المنورة التقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجالسوه كرارا وتناظروا معه، فسمعوا حديثه ودلائله على ما يدعوا إليه من التوحيد والنبوة وسائر أحكام الإسلام، وما كان عندهم رد وجواب، ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، وخافوا إن أسلموا يفقدوا مقامهم ورئاستهم على قومهم. فلما رأى النبي(صلى الله عليه وآله) لجاجهم وعنادهم، دعاهم إلى المباهلة حتى يحكم الله بينهم ويفضح المعاند الكاذب، فقبلوا... ولما جاءوا إلى الميعاد، وهو مكان في سفح جبل، وكان النصارى أكثر من سبعين، من علمائهم وساداتهم وكبرائهم، فنظروا وإذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أقبل مع رجل وامرأة وطفلين، فسألوا عنهم بعض الحاضرين، فلما عرفوا أن الرجل الذي مع النبي(صلى الله عليه وآله) صهره وابن عمه علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو وزيره، وأحب أهله إليه، والمرأة ابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والطفلين هما سبطاه الحسن والحسين(عليهما السلام). قال لهم أكبر علمائهم: انظروا إلى محمد! لقد جاء بصفوة أهله وأعزهم عليه ليباهلنا بهم، وهذا إنما يدل على يقينه واطمئنانه بحقانيته ورسالته السماوية، فليس من صالحنا أن نباهله، بل نصالحه بما يريد من الأموال ولولا خوفنا من قومنا ومن قيصر الروم، لآمنا بمحمد وبدينه.
فوافقه قومه وقالوا: أنت سيدنا المطاع. فبعثوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنهم لا يباهلونه، بل يريدون المصالحة معه، فرضي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمصالحة وأمر علياً(عليه السلام) فكتب كتاب الصلح بإملاء النبي (صلى الله عليه وآله)، فصالحهم(صلى الله عليه وآله) على ألفي حلة فاخرة، ثمن الواحدة أربعون درهماً، وألف مثقال ذهب، وذكر بنودا أخرى، فوقع الطرفان على كتاب الصلح، ولما اعترض النصارى على الأسقف الأعظم ومصالحته مع نبي الإسلام، أجابهم قائلاً: والله ما باهل نبي أهل ملة إلا نزل عليهم العذاب وماتوا عن آخرهم، وإني نظرت إلى وجوه أولئك الخمسة: محمد وأهل بيته، فوجدت وجوها لو دعوا الله عز وجل باقتلاع الجبال وزوالها لانقلعت وانزالت.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضطرم عليهم الوادي ناراً، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا)[1].