قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)[1].
في هذه الآية يشير جل ذكره إلى صفة أخرى لـ "عباد الرحمن" التي هي الاعتدال والابتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصا في مسألة الإنفاق، فيقول تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).
الإنفاق: بذل المال وصرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، والإسراف: الخروج عن الحد ولا يكون إلا في جانب الزيادة، وهو في الإنفاق التعدي عما ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، والقَتْر -بالفتح فالسكون-: التقليل في الإنفاق وهو بإزاء الإسراف على ما ذكره الراغب، والقتر والإقتار والتقتير بمعنى.
والقَوام بالفتح لغة: بمعنى العدل والحد الوسط بين شيئين، وبالكسر (أي قِوام): ما يقوم به الشيء، وقوله: "بين ذلك" متعلق بالقوام، والمعنى: وكان إنفاقهم وسطا عدلا بين ما ذكر من الإسراف والقتر، فقوله: " وكان بين ذلك قواما " تنصيص على ما يستفاد من قوله: " إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا "، فصدر الآية ينفي طرفي الإفراط والتفريط في الإنفاق، وذيلها يثبت الوسط[2].
في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في...قوله عز وجل: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الإسراف الإنفاق في المعصية في غير حق " ولم يقتروا " لم يبخلوا في حق الله عز وجل " وكان بين ذلك قواما " القوام العدل والإنفاق فيما أمر الله به[3].
وعَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: * (وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) * قَالَ الْقَوَامُ هُوَ الْمَعْرُوفُ: * (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) * عَلَى قَدْرِ عِيَالِه ومَؤُونَتِهِمُ الَّتِي هِيَ صَلَاحٌ لَه ولَهُمْ و* (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها))[4].
وفي المجمع[5] روي عن معاذ أنه قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقال: من أعطى في غير حق فقد أسرف، ومن منع من حق فقد قتر[6].
إن عباد الرحمان هم أهل الوسطية والاعتدال فلا هم بالمبذرين المسرفين إخوان الشياطين، ولا هم بالبخلاء الذين يجعلون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم ويتبعون أوامر الشيطان (الشيطان يعدكم الفقر).
إن حال عباد الرحمان وهم يتصرفون فيما وضع بين أيديهم وفيما وهبهم الله ورزقهم هو القوام الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
الملفت للانتباه أنه تعالى في هذه الآية يعتبر أصل الإنفاق أمرا مسلّما لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعا، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.
وفي تفسير " الإسراف" و" الإقتار" كنقطتين متقابلتين، للمفسرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أن "الإسراف" بمعنى أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و" الإقتار " هو أن ينفق أقل من الواجب. وما الذي ذكرته الروايات السابقة إلا مصاديق لهذه الضابطة.
وفي إحدى الروايات الشريفة، ورد تشبيه رائع للإسراف والإقتار وحد الاعتدال، تقول الرواية: (تلا أبو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)، قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإقتار الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفه كلها، ثم قال: هذا الإسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها، وقال: هذا القوام)[7].
البخل والإسراف:
لا شك أن " الإسراف " هو أحد الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإسلام، وورد ذم كثير له في الآيات والروايات، فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدة المسرفين والمبذرين، ففي الآيتين (141) من الأنعام و(31) من الأعراف نقرأ قوله تعالى: (...وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
أما في غافر (43) فنقرأ: (... وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
والآية (151) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ).
أما الآية (83) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية: (...وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ).
والهداية ممنوعة عن المسرفين كما جاء في الآية (28) من سورة غافر: (.. إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)[8].
وقرنت الآية (27) من سورة الإسراء بين المبذرين والشياطين، بقوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً).
وأخيرا تتحدث الآية (9) من سورة الأنبياء عن مصيرهم: (.... وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ).
إن الإسلام يحثّ كثيراً على عدم الإسراف والتبذير إلى درجة أنه نهى عن الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب نهر جار، وحتى في نوى التمر، فقد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الْقَصْدَ أَمْرٌ يُحِبُّه الله عَزَّ وجَلَّ وإِنَّ السَّرَفَ أَمْرٌ يُبْغِضُه الله حَتَّى طَرْحَكَ النَّوَاةَ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلشَّيْءِ وحَتَّى صَبَّكَ فَضْلَ شَرَابِكَ)[9].
وأيضا ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بأحد المسلمين وهو يتوضأ فقال: "ما هذا السرف...؟! " قال أَوَ في الوضوء سرف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار"[10].
ومن الروايات الذامة للإسراف أيضاً أن أَبا عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ مَعَ الإِسْرَافِ قِلَّةَ الْبَرَكَةِ)[11].
في نفس الوقت فإن التقتير والبخل أيضا، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة[12].
فقد ورد (أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْه سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ إِنَّ الشَّحِيحَ أَغْدَرُ مِنَ الظَّالِمِ [أي أدون] فَقَالَ لَه كَذَبْتَ إِنَّ الظَّالِمَ قَدْ يَتُوبُ ويَسْتَغْفِرُ ويَرُدُّ الظُّلَامَةَ عَلَى أَهْلِهَا والشَّحِيحُ إِذَا شَحَّ مَنَعَ الزَّكَاةَ والصَّدَقَةَ وصِلَةَ الرَّحِمِ وقِرَى الضَّيْفِ والنَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ الله وأَبْوَابَ الْبِرِّ وحَرَامٌ عَلَى الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَهَا شَحِيحٌ)[13].
وأيضا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه قَالَ: (قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِذَا لَمْ يَكُنْ للهِ فِي عَبْدٍ حَاجَةٌ ابْتَلَاه بِالْبُخْلِ)[14].
مصائب الإسراف والتقتير:
الإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير ضده حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة لتحقيق خدمات شخصية واجتماعية، والإسراف والتقتير يحدثان أزمات واختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، مضافا إلى فساد القلوب والأخلاق.
والإسلام ينظّم هذا الجانب من الحياة حيث يبدأ من نفس الفرد، فهو مع اعترافه بالملكية الفردية المقيدة إلا أن المسلم ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء - كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان- وإنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وكان بين ذلك قواما)..
ومما لا ريب فيه أن النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط واحد، هو أن لا يبذّروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط أو تفريط، وإلا فإن هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسئ استثمارها والتصرف بها، وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة معينة إلى الفقر في منطقة أخرى، أو إن إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبب فقر الأجيال القادمة[15].
وعالم اليوم بدأ يتحسس الضائقة في بعض الموارد وأخذ يهتم بهذه الفكرة، حتى بات يستفيد من كل شيء، فهو مثلا يستفيد من فضلات المنازل في صنع السماد، ومن ماء المجاري لسقي المزروعات، لأنه أحس أن المصادر الطبيعية محدودة، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة، وإنما ينبغي الاستفادة منها ضمن ما يعرف ب " دورة المصادر الطبيعية "[16].
وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول الإنسان، حذّر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض، لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدة المسرفين والمبذرين[17].
علامات المسرف:
للمسرف علامات ذكرتها الروايات الشريفة:
منها: ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أمّا علامة المسرف فأربعة: الفخر بالباطل، ويأكل ما ليس عنده، ويزهد في اصطناع المعروف، وينكر من لا ينتفع بشيء منه)[18].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (للمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشتري بما ليس له، ويلبس ما ليس له)[19].
مجلة بيوت المتقين العدد (18)
[1] سورة الفرقان: 67.
[2] الميزان 15/240.
[3] تفسير القمي ج2 ص117.
[4] الكافي ج4 ص56 ح8.
[5] المجمع ج7 ص311.
[6] الميزان 15/246.
[7] الكافي ج4 ص54 ح1؛ الأمثل: 11/308-309.
[8] سورة غافر: 28.
[9] الكافي ج4 ص52 ح1.
[10] جوامع الجامع للطبرسي ج2 ص370.
[11] الكافي ج4 ص55 ح3.
[12] الأمثل 11/310-311.
[13] الكافي ج4 ص44 ح1.
[14] الكافي ج4 ص44 ح2.
[15] الأمثل 8/458-463.
[16] الأمثل 8/465-468.
[17] الأمثل 8/458-463.
[18] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج 1 ص122.
[19] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي: ج 17 ص 65.