إن الفطرة الإنسانية مجبولة على عمل الخير والصلاح، وهذه الجبلّة متوافقة ومنسجمة مع أحكام العقل، بل إن مبادئ العقل أمور فطرية؛ جعلها الله في نفس البشرية، كحب العدل وتجنب الظلم والعدوان، حيث يجد الإنسان نفسه بالضرورة مسلما بها. وتلك المبادئ هي الأوليات والمبادئ التي يحصل للإنسان بها اليقين ويطمئن إليها.
وبما أن الفطرة والعقل يرغبان الإنسان في الفضيلة والخير، فإن أهم أسباب الانحراف على مستوى العقيدة أو السلوك ينشأ من مخالفة هذه الفطرة المدعومة بالعقل، فإن الميل عن توجيه الفطرة وحكم العقل، يجعل الإنسان يقع في صفة البهيمية على مستوى التفكير والأفعال، بذلك وصفه القرآن الكريم في سورة الفرقان في قوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).[1]
ذلك أن البهيمة لا تقبل الهداية واليمان كذلك حال الذين يملون عن الحق وأهل الحق، يدعوهم الأنبياء إلى الهدى فلا يستجيبون ولا يتأثرون.
وثمة أشياء تسير بالإنسان إلى الضلالة والعمى لتوقعه في سلوك المعاصي مالم يحتكم فيها إلى العقل والفطرة، منها:
1/ الحديث بلا علم: قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).[2]
إن الاعتماد على خبر أو موقف غير واضح المعالم، أو مجهول المعنى، أو ليس له درجة من الاطمئنان بصدقه، فإن في ذلك آثار سيئة على الإنسان، منها أنه لا يمكن أن يبتني شيء حقيقي وواقعي على قول أو فعل خالٍ من العلم واليقين، سواء في مقدماته أو نتائجه، ومنها فقدان الثقة بالشخص الذي لا يعتمد على اليقين في إخباره لمخالفته الواقع والصدق غالباً.
وعن هذه الآية قال صاحب الميزان: الآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا وعملا، وتتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به ولا تقل ما لا علم لك به ولا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله اتباعاً.
وفي ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية وهو وجوب اتباع العلم والمنع عن اتباع غيره فإن الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلا إصابة الواقع والحصول على ما في متن الخارج والمعلوم هو الذي يصح له أن يقول: إنه هو، وأما المظنون والمشكوك والموهوم فلا يصح فيها إطلاق القول بأنه هو فافهم ذلك.
والإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا ويجده واقعا في الخارج، ويتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، وذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، وأما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس وغالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإن الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك وخبرة باعتبار علمه وخبرته علما لنفسه فيئول اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بأن له علماً وخبرة كما يرجع السالك وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته ومعرفته، ويرجع المريض إلى الطبيب ومثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.[3]
2/ اتباع عقائد وسلوك الآباء
ورد في القرآن ذم اتباع الآباء والأجداد في العقائد كما في قوله تعالى: (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴿71﴾ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ﴿72﴾ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴿73﴾ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴿74﴾)[4].
وآيات كثيرة من هذا القبيل، وهذا الاتباع مبني على أمور تؤمن بها بعض المجتمعات وهي أبعد ما تكون عن الواقع:
الأمر الأول: يعتقد كثير من الناس أن الماضي أفضل من الحاضر مطلقاً، فيبني أفكاره وسلوكه على تقليد الماضي في عقيدة، أو قيمة اجتماعية أو أخلاقية، ويرفض أي تغيير ولا يقبل أي جديد من ذلك، بل يفتخر بنوع الاتباع الجامد غير القابل للتبديل أو التعديل.
الأمر الثاني: اعتقاد الكثير أن عقائد وسلوك ومفاهيم الآباء والأجداد لها نحو قداسة من حيث القرابة، وتنتشر هذه الأفكار في المجتمعات العشائرية القبلية، وهي حالة عانى منها النبي (صلى اله عليه وآله) في بداية دعوته، حيث كان التَّقليد والثبات على خلق الأولين من الآباء أكبر سلاح يحارب به المجتمع القبلي دعوات الرُّسل والأنبياء (عليهم الصَّلاة والسَّلام)، فكان عاملاً في صَّدِّ الكثير من الناس عن دين الله، وقد أشار القران الكريم إلى هذه الحالة الباطلة كما قال الباري عز وجل: قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[5].
3/ السلوك المنتشر:
يقسم العلماء النفس الإنسانية إلى أربع قوى: القوى العاقلة والغضبية والشهوية والواهمة؛ القوى العاقلة وهي ملكية تشبه الملائكة، والقوى الغضبية فيها صفة السبعية كالسباع، والقوى الشهوية وتكون حركتها بهيمية كالبهائم، والقوى الواهمة وهي مرتع الشيطان، بعيدة عن الواقع، وتكمن فيها الدسائس والحيل والمكائد والانحرافات.
يتفق علماء السلوك أن الوهم هو اضطراب عام في التفكير يقوم على اعتقاد خاطئ ثابت في الذهن لا يتزعزع حتى لو اعتقد الأخرون من حوله خلاف ذلك أو برزت له أدلة دامغة تنفي ذلك. وهو اعتقاد راسخ في نفس المريض، ويتصف هذا الاعتقاد بأنه زائف أو خيالي أو مبني على الخداع.
ومن القواعد الخاطئة التي تنشأ من القوى الواهمة دعوى الملازمة بين الكثرة والصحة، يعني كلما انتشر سلوك أو معتقد معين فإنه فإنه يحظى بالتصديق والقبول لعدم قدرة بعض الناس على مخالفة المشهور المنتشر في المجتمع، وهو وهم واضح، ولو كان صدقاً فإن كثير من المجتمعات ينتشر فيها الربا والقمار والزنا فهل هذا الانتشار يصحح هذه الأعمال؟
إضافة إلى أن القرآن الكريم ينكر هذه القاعدة الواهمة، ويثبت العكس من أن الكثرة تخالف الصدق والصحة، وتبتعد عن الفضيلة غالباً، قال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)[6].
ومنه قوله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)[7].
ومن هنا ينبغي الالتفات إلى أن الكثرة قد تتفق على الفسق والرذيلة فهي ليست مقياساً صادقاً للصواب.
4/ اتباع الظن:
قال سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾.[8]