مكافحة موانع الإنفاق

(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَالله وَاسِعٌ عَلِيم)[1].

التفسير:

تشير الآية هنا إلى أحد الموانع المهمة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانية التي تخوِّف الإنسان من الفقر والعوز، وخاصة إذا أراد التصدّق بالأموال الطيّبة والمرغوبة، وما أكثر ما منعت الوساوس الشيطانية من الإنفاق المستحب في سبيل الله وحتى من الإنفاق الواجب كالزكاة والخمس أيضاً.

فتقول الآية في هذا الصدد: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)، ويقول لكم: لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبروا في غدكم، وأمثال هذه الوساوس المظلِّة، ومضافاً إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وارتكاب المعصية: (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، (الفحشاء) تعني كل عمل قبيح وشنيع، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد، حيث يكون نوعاً من المعصية والإثم، رغم أن مفردة الفحشاء تعني -عادة- الأعمال المنافية للعفّة، ولكننا نعلم أن هذا المعنى لا يناسب السياق، حتى أن بعض المفسرّين صرح بأن العرب يطلقون على الشخص البخيل (فاحش).

ويحتمل أيضاً أن الفحشاء هنا بمعنى اختيار الأموال الرديئة، وغير القابلة للمصرف والتصدّق بها، وقيل أيضاً: أن المراد بها كل معصية، لأن الشيطان يحمل الإنسان من خلال تخويفه من الفقر على اكتساب الأموال من الطرق غير المشروعة.

والتعبير عن وسوسة الشيطان بالأمر (وَيَأْمُرُكُمْ) إشارة لنفس الوسوسة أيضاً، وأساساً فكل فكرة سلبية وضيقة ومانعة للخير فإن مصدرها هو التسليم مقابل وساوس الشيطان، وفي المقابل فإن كل فكرة إيجابية وبنّاءة وذات بعد عقلي فإن مصدرها هو الإلهامات الإلهية والفطرة السليمة.

ولتوضيح هذا المعنى ينبغي أن نقول: إن النظرة الأولى إلى الإنفاق وبذل المال توحي أنه يؤدي إلى نقص المال، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيقة، ولكننا بتدقيق النظر ندرك أن الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع، وتحكيم العدل الاجتماعي، وتقليل الفواصل الطبقية، والتقدّم العام.

وبديهي أن تقدّم المجتمع يعني أن الأفراد الذين يعيشون فيه يكونون في رخاء ورفاه، وهذه هي النظرة الواقعية الإلهية.

يريد القرآن بهذا أن يعلّم الناس أن الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنه أخْذّ، ولكنه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادياً ومعنوياً.

وفي عالمنا اليوم حيث نشاهد نتائج الاختلافات الطبقية والمآسي الناتجة عن الظلم واحتكار الثروة، نستطيع أن نفهم معنى هذه الآية بوضوح.

كما أن الآية تفيد أيضا أن هناك نوعاً من الارتباط بين ترك الإنفاق والفحشاء، فإذا كانت الفحشاء تعني البخل، فتكون علاقتها بترك الإنفاق هو أن هذا الترك يكرّس صفة البخل الذميمة في الإنسان شيئاً فشيئاً.

وإذا كانت تعني الإثم مطلقاً أو الفحشاء في الأمور الجنسية فإن علامة ذلك بترك الإنفاق لا تخفى، إذ أن منشأ كثير من المعاصي والانحرافات الأخلاقية هو الفقر والحاجة.

يضاف إلى ذلك أن للإنفاق آثاراً ونتائج معنوية مباركة لا يمكن إنكارها.

(وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا)، جاء في تفسير (مجمع البيان) روي عن ابن عباس أنه قال: (اثنان من الله، واثنان من الشيطان: فاللّذان من الله المغفرة على المعاصي، والفضل في الرزق، واللذان من الشيطان: الوعد بالفقر، والأمر بالفحشاء)[2].

وعليه فإن المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب، والمقصود بالفضل هو ازدياد رؤوس الأموال بالإنفاق، وقد جاء عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة»[3].

(وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، في هذا إشارة إلى أن لله قدرة واسعة وعلماً غير محدود، فهو قادر على أن يفي بما يعد، ولا شك أن المرء يطمئن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجر المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم[4].

مجلة بيوت المتقين العدد (85)

 


[1] سورة البقرة: الآية 267.

[2] مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج2، ص193.

[3] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص513.

[4] تفسير الأمثل، السيد مكارم الشيرازي: ج2، ص311 بتصرف.