البرزخ والقيامة

للبعد الغيبي لحياة ما بعد الموت يضعف عند البعض تصور مراتب ومراحل تلك المرحلة، خصوصاً مع تقريرات بعض الكتاب المسلمين من أن عذاب البرزخ ونعيمه هو جزء من عذاب الآخرة، وهو أحد مصاديقه، وغيرها من التعبيرات المشابهة.

إن عذاب القبر أو عذاب البررخ ونعيمهُ هو عالم انتقالي بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة الأبدية، وقد شهدت الآياتُ والرّواياتُ أنه عالم مغاير لعالم الآخرة، وأنه في مرحلة سابقة ليوم الحساب والجزاء، وإن كان يشترك معه في أسباب النعيم والعذاب، أنها تعتمد على أعمال الإنسان وإيمانه في حياته الدنيا، إلا أنهما ليسا من نوع واحد، يقول الله تعالى فِي سورةِ غافِر: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[1].

فالآيةُ صريحةٌ بأمرين: أحدهما، العرض على النار غدوّاً وعشياً، وهو يحصل قبلَ يومِ القيامةِ، والآخر، إدخال آل فرعون أشدّ العذاب، ويحصل هذا العذاب فِي يومِ القيامةِ، والعذابُ الذي قبلَ يومِ القيامةِ هوَ الذي يُصطلَحُ عليهِ بعذابِ القبرِ أو عذابِ البرزخِ.

كما يذكر سبحانهُ أصحابَ الأخدودِ فيقولُ: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[2].

وهذه الآيةُ تذكر أيضاً نوعين من العذاب: عذاب جهنَّمَ، وعذاب الحريقِ، ومِنَ الواضح أنَّ جهنَّمَ اسم لنار الآخرة، وإذا لم نجد وجهاً جيداً للتكرار، يكون عذابُ الحريقِ عذاباً في غير جهنم، وليس إلا عذابُ البرزخِ، أو مَا يُسمّى بعذابِ القبرِ، كما في دلالة الآية السابقة.

وأقرب الآيات دلالة على عالم البرزخ وتقدمه على يوم القيامة قوله سبحانهُ وتَعالى عن الشّهداءِ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[3].

فالآيتان تدلّان على نعيم خاص غير ذلك الذي يتنعم به المؤمنون يوم القيامة، فهما تتحدّثان عن مرحلةٍ لا يمكنُ أن يكونَ المراد بها يوم القيامة؛ لأنّهُ فِي يوم القيامة لا يوجدُ هناك من نَنتظره للحضورِ، فالكلّ سيحشر وينتقل إلى الدّار الآخرة، ولا يوجد من يبقى وراءنا حتَّى ننتظرهُ ونتمنَّى لُحوقه بِنَا، فالآية صريحةٌ في الدّلالة على عالم البرزخ أو عذاب القبر ونعيمه.

فمن هذه الآيات الكريمة يتضح أن البرزخ ليس هو يوم القيامة، وليس جزءً من يوم القيامة، بل هو عالم مستقل في مفهومه وحكمه، وموضوعه يتحقق بخروج الروح من البدن، وينتهب بيوم النشور، ولا مجالَ لنفي ذلك مع دلالة الظواهر القرآنية المتقدمة.

كما بينت بعض الروايات أنّ النّعيمَ أو العذابَ البرزخيَّ لا يشملُ الجميعَ، بَل يكونُ لفئة خاصّة يُطلق عليهَا فِي الرّواياتِ: مَن محضَ الإيمانَ محضاً، ومَن محضَ الكفرَ محضاً، فقد روى الشّيخ الكليني(قدس سره) بسندهِ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام) قَالَ: «إِنَّمَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ مَنْ مَحَضَ الإِيمَانَ مَحْضاً، وَالْكُفْرَ مَحْضاً، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَيُلْهَى عَنْهُ»[4].

ويطلق البعض على البرزخ القيامة الصغرى، وعلى يوم الحساب القيامة الكبرى، قال صاحب تفسير الأمثل: (من يمت تقم قيامته الصغرى - من مات قامت قيامته - وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ، والقسم الآخر في القيامة الكبرى، أي القيامة العامة، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرع، ولا يجد الإنسان وليّاً من دون الله ولا نصيراً)[5].

وإذا كان الأمر كذلك فالحساب الأكبر الذي يشملُ الناس جميعاً هو ما يكون يوم القيامة، وهذا العذاب والنعيم البرزخي الموقّت يكون طريقاً ومقدمة لذلكَ النعيمِ والعذابِ المؤبّد الشّاملِ، تُعرض صحائف الأعمال، وتفتح ملفاتُ الإنسانِ كلُّهَا، ويقول الإنسانُ حينها: (مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[6]، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)[7].

مجلة ولاء الشباب العدد (57)

 


[1] غافر: 46.

[2] البروج:10.

[3] آل عمران: 169- 170.

[4] الكافي، الكليني: ج3، ص235.

[5] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج17، ص196.

[6] الكهفُ:49.

[7] البقرة: 281.