القراءة الثانية للصلح

يحاول أصحاب هذه القراءة تبرير موقف الإمام في صلحه وموفقيته فيه إلى أبعد الحدود، ويستند إلى العِلل المادية التي اضطرت الإمام إلى الصلح كخِذلان جيشه، وفساد مجتمعه، وخيانة الزعماء والمُبرزّين والوجهاء من شعبه وغير ذلك من العوامل، وهي كما يأتي :

العامل الأول: تَفَلُّل الجيش.

إن أعظم ما تواجهه دولة ما مما يثير الاضطراب ويسبب القلاقل والفتن ناتج في الأغلب من خُبث الجند، وشدة خِلافِه، وعصيانه لقيادته العامة، وقد مُني جيش الإمام (عليه السلام) آنذاك بالتمرد والانحلال بما لم يُبتَلَ به جيش معاوية، فإنه ظل محتفظا بالولاء لحكومته ولم يُصَب بمثل هذه الرجّات والانتكاسات.

 أما العلل التي أدت إلى اضطراب جيش الإمام (عليه السلام) وانشقاقه فهي :

  • تضارب الحزبية فيه :

إن الأحزاب إذا تضاربت في الجيش وكانت مدفوعة بالحقد للحكم القائم، أو كان لها اتصال بدولة أجنبية تعمل بوحي منها، وتستمد منها التوجيهات للإطاحة به، فإن الدولة لا تلبث أن تُلاقي النهاية المحتومة عاجلا أو آجلا، وقد ابتلي جيش الإمام (عليه السلام) في ذلك الوقت بحزبين ليس فيهما صديق للدولة الهاشمية ولا محافظ عليها، وإنما كانا يبذلان المساعي والجهود للقضاء عليها، وهما :

الحزب الأموي :وهؤلاء هم أبناء الأسر البارزة وذوو البيوت الشريفة الذين لا يهمهم غير الزعامة الدنيوية، والظفر بالمال والسلطان وهم كعُمر بن سعد، وقيس ابن الأشعث، وعَمرو بن حُريث، وحجّار بن أبجر، وعمرو بن الحجّاج، وأمثالهم من الذين لا صلة لهم بالفضيلة والكرامة، وكانوا أهم عنصر مخيف في الجيش، فقد وعدوا معاوية باغتيال الإمام (عليه السلام) أو بتسليمه له أسيرا، كما قاموا بدورهم بأعمال بالغة الخطورة وهي :

١. إنهم سجّلوا كل ظاهرة أو بادرة في الجيش فأرسلوها إلى معاوية للاطلاع عليها.

٢. كانوا همزة وصل بين معاوية وبقية الوجوه.

٣. قاموا بنشر الأراجيف والإرهاب في نفوس الجيش عن قوة معاوية وضعف الحسن (عليه السلام).

وأدت هذه الأعمال إلى انهيار الجيش، وزعزعة كيانه، وضعف معنوياته في جميع المجالات.

الحزب الحَروري [الخوارج]: وهذا الحزب قد أخذ على نفسه الخروج على النظام القائم، ومحاربته بجميع الوسائل، وقد انتشرت مبادؤه في جيش الإمام (عليه السلام) انتشارا هائلا، لأن المبشّرين بأفكارهم كانوا يحسنون غزو القلوب والأفكار ويجيدون الدعاية، وقد وصف زياد بن أبيه مدى قابليتهم بقوله: لَكلامُ هؤلاء أسرعُ إلى القلوب من النار إلى اليَراع[1]، ووصف المغيرة بن شعبة شدة تأثيرهم في النفوس بقوله :إنهم لم يقيموا ببلد إلا أفسدوا كلَّ من خالطهم[2].

 وقد استولوا على عقول السذج والبسطاء من الجيش بشعارهم الذي هتفوا به (لا حكم إلا لله) ولم يقصدوا بذلك إلا حكم السيف كما يقول فان فلوتن[3].

لقد قضت خُطط الخوارج الملتوية بوجوب الخروج على ولي أمر المسلمين إذا لم ينتمِ إليهم، وهو عندهم جهاد ديني تجب التضحية في سبيله، وقد قاموا بأعنف الثورات ضد الولاة حتى عَسُر عليهم مقاومتهم، وكان الخوارج يحملون حقدا بالغا في نفوسهم على الحكومة الهاشمية، لأنها قد وترتهم بأعلامهم، وقضت على الكثيرين منهم في واقعة النهروان، وقد فتكوا بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتركوه صريعا في محرابه انتقاما منه بما فعله فيهم، كما حاولوا اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) وطعنوه في فخذه، وحكموا بتكفيره، وأعداد هذه العصابة كثيرة للغاية فقد نَصَّت بعض المصادر أن أكثرية الجيش كانت من الخوارج[4].

وهذان الحزبان السائدان في العراق قد بذلا جميع الطاقات لإفساد الجيش، وبذر الخلاف والانشقاق في جميع وحداته حتى ارتطم في الفتن والأهواء، ويضاف لذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الجيش كان موقفها موقفا سلبيا من قضية الإمام الحسن (عليه السلام) لأنها لا تفقه الأهداف الحقيقية التي ينشدها الإمام (عليه السلام)، ولضيق تفكيرها كانت ترى أن الخليفة هو كل من ارتقى دست الحكم، من أي طريق كان، فالحسن (عليه السلام) ومعاوية  سيّان، وإن حارب الحسنُ (عليه السلام) معاويةَ على الدِّين، وحارب معاويةُ الحسنَ (عليه السلام) على الدنيا.

ولم يَعُد بعد ذلك من يُناصر الحكومة الهاشمية، ويقف إلى جانبها سوى الفئة الشيعية التي ترى رأي العلويين في أحقيتهم بالخلافة، وهم أمثال الزعيم قيس بن سعد، وسعيد بن قيس، وعدي بن حاتم الطائي، وحجر بن عدي، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر، وأضرابهم من تلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهم الأقلية عددا كما قال الله تعالى( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [5])وليس باستطاعتهم أن ينتشلوا الحكومة من الأخطار الحافة بها، فإنهم لو كانوا كثرة في الجيش لما اضطر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبول التحكيم، ولما التجأ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الصلح.

  • السأم من الحرب :

إن من طبيعة الكوفة التي جُبلت عليها نفوس أهلها، السَّأَم والملَل  (ولا رأي لمَلول)، ومضافا لهذه الظاهرة النفسية التي عرفوا بها أن هناك سببين أوجبا زيادته ومضاعفته، وهما :

 الحروب المتتالية :ومما سبب شيوع الملل والسأم في نفوس جيش الإمام (عليه السلام) الحروب المتتالية فإن الدولة كانت تستعمله في الفتوحات والدفاع عنها، وزاد في ضعف أركانه وانهياره حرب صفين والنهروان، فقد طحنت الحرب فيها جمعا غفيرا منهم حتى أصبحوا يكرهون الحرب ويُؤثِرون السِّلم ويُحبّون العافية.

اليأس من الغنائم :ولم يغنم جيش الإمام (عليه السلام) في حرب الجمل وصفين والنهروان شيئا من العتاد والأموال، لأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يعامل خصومه معاملة الكفار، فيقسّم غنائمهم على المسلمين، وإنما أمر بإرجاع جميع الأموال التي اغتنمها جيشه إلى أهلها بعد انتهاء حرب البصرة[6]، وقد علم الجيش أن الإمام الحسن (عليه السلام) لا يتحول عن سيرة أبيه ونهجه، فلم يثقوا بالأموال والغنائم إن حاربوا معاوية، فأعلنوا العصيان وأظهروا التمرد والسأم من الحرب.

  • فقد القوى الواعية :

ومما سبب تفلّل الجيش فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (عليهم السلام) وعرفوا فضلهم، وكان الجيش بجميع كتائبه يُكنّ لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين، ومن الذين أبلَوا في الإسلام بلاء حسنا، وكان لهم شأن كبير في تنظيم الحركة العسكرية، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر، والقائد الملهم هاشم المرقال، وثابت بن قيس، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان، وقد طحنتهم حرب صفين، وقد أحصى رواة الأثر عدد البدريين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا في تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في صفوف الجيش، فقد خسر الضروس والرءوس، وبُلِي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر في كيانه، ولو ضم جيش الإمام (عليه السلام) أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه.

  • الدعوة إلى الصلح :

ومما سبب ضعف العزائم، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام (عليه السلام)، ولم تكن الأكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيّته لهم من الشر، فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف، مضافا لذلك خيانة زعمائهم، والتحاقهم بمعسكر معاوية.

وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب، ولم يكن في استطاعة الإمام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته.

  • خيانة عبيد الله بن العباس:

ويعتبر خذلان عبيد الله بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله، فقد طعن بخيانته جيش الإمام (عليه السلام) طعنة نجلاء، وفتح باب الخيانة والغدر، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام (عليه السلام)، فاتخذوا من غدر عبيد الله وسيلة لذلك، فهو ابن عم الإمام وأقرب الناس إليه، وقد أولد غدر عبيد الله في نفس الإمام (عليه السلام) حُزنا بالغا وأسى مريرا، فانه لم يرع  الدين، ولا الوتر، ولا العنعنات القبلية، ولا الرحم الماسة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا قائده الأعلى، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن (عليه السلام) في مسجد الكوفة، ولا الخوف من حديث الناس، ونقمة التاريخ.

  • شراء معاوية للذمم :

وبالأموال تشترى ذمم الرجال، وتباع الأوطان، وتخمد الأفكار، ويسيل لها لعاب الأبطال، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والأشراف والزعماء، فإنه لم ير وسيلة للتغلب على الأحداث إلا بذلك، فغدروا بالإمام (عليه السلام)، وتسللوا إليه في غَلَس الليل وفي وَضَح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب الله، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله، وإعلانه للعصيان والتمرد.

إن الأكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل، وإنما كانت تسعى نحو المنافع والأطماع، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال: من أعطانا الدراهم قاتلنا معه.

إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يُخلِص في دفاعه، ولا يُؤمَن من انقلابه، وخطرُهُ على حكومته أعظمُ من الخطر الخارجي.

إن معاوية عرف نقطة الضعف في جيش الإمام (عليه السلام) فأغدق عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم (صلى الله عليه وآله) ووديعته في أمته.

  • الإشاعات الكاذبة.

ومما سبب انحلال الجيش الإشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية في (المدائن)، تارةً بأن قيس بن سعد قد قُتل، وأخرى بأنه قد صالح معاوية، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف، وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام جيش الإمام (عليه السلام)، فإنه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته، واعتدوا عليه، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الإنسانية والكرامة لقاموا بحماية الإمام (عليه السلام)، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على أصالته، ومن البديهي أن القوى العسكرية قَلبُ الدولة ومصدرُ حمايتها، فإذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الأعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!

العامل الثاني: قوة العدو.

إن الذي دعا الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة لجيش الإمام جيش الإمام (عليه السلام) على مناجَزتها، ولا قابلية له للوقوف أمامها، حتى استطاع معاوية أن يُناجِز جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل، لذلك أُرغم الإمام الحسن (عليه السلام) على الصلح، ونقدم عرضا لبعضها وهي:

  • طاعة الجيش :

   غَرَس معاوية حبَّه في قلوب جيشه، وهيمَن على مشاعرهم وعواطفهم، فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرهم حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوعَ إرادته، وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) ليس له وارث شرعي غير بني أمية، فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول (صلى الله عليه وآله) قرابة، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى تولّى بنو العباس الخلافة.

ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمّد وضعها الرواة المستأجَرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأقرب الناس إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من أسرته النعوت الحسنة والأوصاف الشريفة، حتى جعلوهم في الرعيل الأول من المصلحين الأخيار، وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك، يقول الأستاذ (فان فلوتن): وكان السواد الأعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام، وقال: وكان معاوية في نظر الحزب الأموي خليفة الله كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين، وعبد الملك إمام الإسلام وأمين الله[7]، وبلغ من ودّهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يصارفه معاوية بأصحابه، فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من جماعته الذين عرفوا بالشغب والتمرد.

  • بساطة وسذاجة :

وأتاح الزمن الخؤون إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة، فلم يعرف الأكثر منهم أي طرفيه أطول، وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلادتهم، تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قَدِم على بعير له إلى دمشق حال مُنصرفهم من صفين، فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :هذه ناقتي أخذت مني بصفين، وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بيّنة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون أنها ناقته فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه فورا، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا الحكم قائلا :أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال له معاوية: حكم قد مضى، ولما انفضَّ الجمع أمر معاوية بإحضار العراقي فلما مَثُل عنده سأله عن ثمن البعير فأخبره به، فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه، ثم قال له: أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم مَن يفرّق بين الناقة والجمل[8].

إن خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل، وليس من شك أن الأكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات، همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة، فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (صلى الله عليه وآله): إن ابن سمية تقتله الفئة الباغية، ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دَبَّ فيهم قال لهم: إن الذي قتله من أخرجه، فصدّقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية، ومن الطبيعي أن الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجيش المطيع الغافل توصلت إلى غاياتها وتحقيق أهدافها.

وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نِير الاستعباد الأموي، قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير، لئلا تنضج أفكارهم ويقفون على الحقيقة، فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.

  • اتفاق الكلمة :

ذكرنا سابقا ما مُني به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزعة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها، وعلى العكس من ذلك كانت الشام، فإنها بجميع طبقاتها لم تُبْتَلَ بتلك الأحزاب، ولم تُصَبْ بالأفكار المعادية للحكم القائم، فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيّما على دمشق وجميع ملحقاتها، ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه.

  • ضخامة القوى العسكرية :

وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية في إصلاح جيشه وتقويته، فإنه لما مُنيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا يضعف جيشه، ومضافا إلى ذلك فإنه لم يستعمله في الفتوح والحروب، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين، فكان محتفظا بنشاطه وقوته.

وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فإنه لما عزم على حرب الإمام الحسن (عليه السلام) كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (عليه السلام) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر.

  • حاشيته :

ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية، فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال في تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤونه، وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه: لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وقيل في عظيم مكره: كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما.

ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل، وقد قيل في وصفه: ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال في ذلك: والله لألقى الراعي فأحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه، ولما بلغه مقتله قال: أنا أبو عبد الله ما نكأت قرحة إلا أدميتها، وهو الذي خدع جيش الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) برفع المصاحف، فتركه مُمَزقَ الأوصال، مُختَلِفَ الأهواء.

لقد جذب معاوية هؤلاء الدُهاة الماكرين الذين يدسون السُّم بالعسل، ويُلبِسُون الباطلَ لِباسَ الحق، ولم يتحرجوا من الإثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن يَمتُّ إليهم من صُلحاء المسلمين، ليتسنى لهم القضاء على الإسلام، حتى يُمعِنوا في التحلل حيثما شاءوا، وقد وقف الإمام الحسن (عليه السلام) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المصلحون، فقد حفظ ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحقن دماء المؤمنين من شيعته، لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعود بالصالح العام للمسلمين، لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنوياتها وأصالتها.

  •  ضخامة الأموال:

وقد تيسر لمعاوية ثراء عريض مهَّدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها، فإنه لم ينفقها في صالح المسلمين وإنما اشترى بها الضمائر والأديان، ليمهّد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين.

لقد وجَّه معاوية جُباةَ السوء إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتغلب عليه، وقد رأى السبط الأكبر (عليه السلام) بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته، ولا الانتصار عليه، وأن الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة، فإنها تجرّ للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا الله.

العامل الثالث: اغتيال أمير المؤمنين (عليه السلام).)

ومن العوامل التي دعت الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الصُلح ما رُوِّع به من اغتيال أبيه، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه الشريفة، لأنه قد قُتل على غير مال احتجبه ولا سُنَّة في الإسلام غيَّرها، ولا حق اختص به دونهم، وكان يَحيىَ بينهم حياة الفقراء والضعفاء، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات، ويسعى جادا في إقامة العدل، وإماتة الجور، ونصرة المظلومين وإعالة الضعفاء والمحرومين، فعمدوا إلى اغتياله وتركوه صريعا في محرابه لم يحفظوا حرمته، ولا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه، وقد رأى الإمام الحسن (عليه السلام) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم، وإرجاعهم إلى طريق الحق والصواب، فتنكّر منهم، وزهد في ولايتهم، وقد أدلى (عليه السلام) بذلك بقوله: وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي.[9]

العامل الرابع: حقن الدماء.

ومن دواعي الصلح رغبة الإمام (عليه السلام) المُلِحّة في حقن دماء المسلمين، وعدم إراقتها، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحّى بشيعته وأهل بيته، فُيجتثَّ بذلك الإسلام من أصله، وقد صرَّح (عليه السلام) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :إني خشيت أن يُجتثَّ المسلمون من الأرض فأردت أن يكون للدين داع.[10]

وأجاب (عليه السلام) بعض الناقمين عليه من شيعته في الصلح فقال: ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل[11]. وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه بدماء المسلمين فقد جاء فيه: أيُّها الناس إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة، وحقن دمائها[12].

ومن حِيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين (عليه السلام) حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يُهرق في أمره ملء محجمة دما.

إن أحبَّ شيء للإمام (عليه السلام) الحفاظ على دماء المسلمين، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

العامل الخامس: مِنّة معاوية.

لقد علم الإمام (عليه السلام) أنه إن حارب معاوية فإن أجلاف جيشه وأوباشهم سوف يسلّمونه أسيرا إلى معاوية، وأغلب الظن أنه لا يقتله، بل يُخلي عنه، ويُسجِّل له بذلك مَكرمة وفضيلة، ويُسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين، ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق، وقد صرح الإمام الحسن (عليه السلام) بهذه الخاطرة قائلا: والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سِلما، والله لَئِن أُسالمه وأنا عزيز، أحبُّ إليَّ من أن يقتلني وأنا أسير أو يَمُنّ عليّ فتكون سُبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ولمَعاوية لا يَزال يَمُنّ بها هو وعَقِبُه على الحَيّ منّا والميت[13].

وهذا السبب له مكانته من التقدير فإن الإمام (عليه السلام) أراد أن لا يُسجَّل لخصمه أيَّ فضيلة ومكرمة.

العامل السادس: حوادث المدائن.

ومن جُملة الأسباب التي دعت الإمام إلى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن، وخلاصتها:

  • خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية.
  • الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.
  • محاولة اغتياله.
  • نهب أمتعته.

العامل السابع: الحديث النبوي.

نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها، رأى أمّته سَتُخيم عليها الكوارث، وَتْنصَبُّ عليها الفتن والخطوب، حتى تُشرِف على الهلاك والدمار، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر، وريحانته من الدنيا الإمام الحسن (عليه السلام) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :إن ابني هذا سيدٌ ولعل الله أن يُصلحَ به بين فئتَين من المسلمين عظيمتين[14].

وانطبع هذا الحديث في أعماق الإمام الحسن (عليه السلام) وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره، وتَمثَّلَ أمامَه في ذلك الموقف الرهيب، وإنه ليطمئن إلى قول جده كما يطمئن إلى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يحدث بهذا الحديث، وكأن صوته الشريف يرنّ بعذوبته المحببة في أذنه، فينتشر من منبره، ويصل لأصحابه، ويتكرر مضمونه ما لا يحصى كثرة: إن ابني هذا سيدٌ ولعل الله أن يُصلحَ به بين فئتَين من المسلمين عظيمتين.

وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه جده (صلى الله عليه وآله) في المدائن رأي العين، من وجود طائفتين :

إحداهما: شيعته وهم من خيار المسلمين، وصلحائهم من الذين وقفوا على أهداف الإسلام، وعرفوا حقيقته وواقعه.

الثانية: أتباع معاوية من السُّذَّج والبسطاء والمنحرفين عن الإسلام، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدّعون الإسلام.

وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فإنها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الإسلام وتنهار قواه، وبعد ذلك مَنْ يصدّ عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم؟ ومَنْ هو يا ترى حريص على رعاية الإسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه؟! فآثر الصلح على ما فيه من قذى في العين، وشجا في الحلق.

وذهب بعض المؤرخين إلى أن الباعث لخلع الحسنِ (عليه السلام) نفسَه عن الخلافة حديثُ النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك[15].

نظر الحسن (عليه السلام) إلى قول جده (صلى الله عليه وآله) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل إلى معاوية، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه (عليه السلام) فقال :قال لي أبي ذات يوم: كيف بك يا حسن إذا وُلَّيَ هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الاعفجاج[16]، يأكل ولا يشبع، فيستولي على غَربها وشَرقها، تَدين له العباد، ويطول ملكه، ويَسُن البِدع والضَلال، ويُميت الحق وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه عمن هو أحق به، ويُذَل في ملكه المؤمن، ويَقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دِوَلا، ويتخذ عباد الله خِوَلا، وَيْدرُس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويَقْتُل من ناوأه على الحق...[17]

إن النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي (عليه السلام) قد استشفّا من حجاب الغيب ما تُمنى به الأمّة الإسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وإنها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فَيسُومونها سُوء العذاب، ويستأثرون بمال الله، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.

وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره، فبعث جماعة من أصحابه إلى الكوفة ليشيعوا أن معاوية قد مات، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتكرر حديث الناس حول هذه الإشاعة فقال (عليه السلام): قد أكثرتم من نعي معاوية، والله ما مات، ولا يموتن حتى يملك ما تحت قدمي[18]. ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الإمام (عليه السلام) هو باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله) ومستودع سره، وأن قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يُخطئ الحق.

ومهما يكن الأمر فإن الإمام الحسن (عليه السلام) بصلحه مع معاوية قد لَقَّبَه المسلمون بالمُصلح العظيم، وقد أفاض عليه هذا اللقب جَدُّه الرسول (صلى الله عليه وآله) من قبل.

العامل الثامن: إبراز حقيقة معاوية وواقع بني أمية.

  كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام ظاهرا، ويظهر الاهتمام بشؤون المسلمين، ولكن كان ذلك - من دون شك - رياءً منه ومكيدةً، من باب المشي رويدا لأخذ الصيد، فكان يُبطن الكفر والنفاق ويُضمر السوء والعداء للمسلمين، فأراد الإمام الحسن (عليه السلام) بصلحه أن يُبرز حقيقته، ويظهر للناس عاره، ويُعّرفَه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام، فأخلى له الميدان، وسلّم له الأمر، فإذا بكسرى العرب -كما يقولون - تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب الله، وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإذا به يعمد إلى فصم عُرى الإسلام وإلى نسف طاقاته، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه، فيصبّ عليها وابلا من العذاب الأليم، فيعدم وينكّل بمن شاء منها، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم (صلى الله عليه وآله)، وإعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها.

هذه جملة من العوامل التي أدت بالإمام (عليه السلام) إلى السلم، وفيما نعلم أنها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب.

نقد هذه القراءة

وما يمكن أن يلاحظ على هذه القراءة ثلاث ملاحظات أساسية وهي:

الأولى: أنها لا تميز بين سنوات الصلح العشر زمن حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، التي كانت سنوات أمان وحركة نشيطة لشيعة علي (عليه السلام) في نشر أخبار سيرته المشرقة وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته (عليهم السلام)[19]، وسنوات المحنة بعد وفاته (عليه السلام)، وهي السنوات التي أعاد فيها معاوية إعلامه الكاذب ضد علي (عليه السلام) بأشد ما يكون، وفرض على الناس في كل مكان لَعْنَه، ومعاقبة المخالف، وكان أشد الناس ابتلاء أهل الكوفة لكثرة مَنْ فيها من شيعة علي (عليه السلام)، وليس من شك في أن هذا التحليل – ونعني به التمييز بين السنوات العشر وغيرها - إذا تم فهو مقدم على باقي التحليلات التي أغفلت هذه النقطة، ومن تداعيات هذا الأمر عدم صحة بعض ما ذكر في تلك التحليلات من قبيل: أن الشروط لم يلتزم بها معاوية منذ اليوم الأول، أما الرواية التي تقول إن معاوية خطب في الكوفة في اليوم الأول من الصلح ونال من علي (عليه السلام) بمرأى ومسمع من الإمام الحسن (عليه السلام)، وأعلن عن ردَّه للشروط فهي رواية موضوعة في العهد العباسي لتشويه العمل العظيم الذي قام به الإمام الحسن (عليه السلام) نكاية بالحسنيين الثائرين من ولده على العباسيين، وفي تقديرنا أن قول معاوية - إن صحت الرواية - قد قاله بعد وفاة الحسن (عليه السلام) وبعد تعقُّبه شيعةَ علي (عليه السلام) سجنا ونفيا وقتلا.

الثانية: انطلقت القراءة الثالثة للصلح من فكرة مفادها: إن الموقف المطلوب أساسا هو الحرب، ولمَّا لم يكن للحسن (عليه السلام) - كما تُصور لنا الروايات الموضوعة - جيش كفوء يعتمد عليه لإيقاف خصمه المتستَر بالإسلام اضطُرَّ إلى الصلح لفضحه، ثم جعلت الرؤية السائدة الاستفادة من درس صلح الحديبية هو تأسي الحسن (عليه السلام) بجده النبي (صلى الله عليه وآله) حين أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه أمر الصلح، كما أنكر على الحسن صلح (ساباط) بعض الخاصة من أوليائه.

وفي تقديرنا أن الاستفادة كانت أعمق من ذلك: إذ أنَّ الموقف الذي أَسَّسه صلح الحديبية هو إِفهام الناس أنَّ الحرب ليست هي القاعدة العامة لحل المشكلات والأزمات، بل قد يكون الموقف المطلوب الذي يفتح الطريق للهداية أو لحل الأزمة المستعصية هو الصلح والتنازل المحدود المشروط، وقد استهدف النبي (صلى الله عليه وآله) في صلح الحديبية هذا الموقف لتحقيق الأمان في الجزيرة العربية المقرون بفضح إعلام قريش التي كانت تدَّعي أنها تعمل على احترام البيت الحرام وزوّاره وأن محمداً (صلى الله عليه وآله) كان لا يحترم البيت الحرام وما يرتبط به من قوافل أهله التجارية، فقد تعرض لها في الطريق وأخافها، وقد كانت العرب في الجاهلية تحترمها وتحرسها احتراما للبيت الحرام.

 مضافا إلى هذا المكسب فقد انطلقت الأخبار الصحيحة عن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) تشقّ طريقها إلى الناس الذين اكتشفوا أنهم كانوا مخدوعين بالإعلام القرشي الكاذب، ومن هنا رأينا النبي (صلى الله عليه وآله) يخرج في تظاهرة كبيرة هو وأصحابه مُحرمين يسوقون الهديَ لزيارة البيت وعرض النبي (صلى الله عليه وآله) على قريش الصلحَ فقبلت بعد تردد ورفض واشترطت أَنْ يرجع عامَه ذاك وقَبِل النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك، وعرفت العرب أن قريشا هي التي تصدُّ عن البيت الحرام وليس محمدا (صلى الله عليه وآله)، فافتضح إعلامها الكاذب، واختلط المسلمون مع الناس ونقلوا إليهم صورا رائعة من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) الهادية، وبذلك تبدلت الصورة السيئة التي أشاعتها قريش المشركة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ليحي من حيَّ عن بينة، واستجابت القبائل ودخلت الإسلام أفواجا ومن ثم سَمّى القرآنُ الصلحَ مع ما يحفّه من التنازل بـ (الفتح المبين).

والأمر نفسه تكرر مع (قريش الأبناء) بقيادة معاوية لما تخندقوا في الشام واستطاعوا أن يعبّئوا الشام بإعلام كاذب وإعطاء صورة سيئة عن علي (عليه السلام)، وكونه يطلب الملك بالحرب وسفك الدماء وأنه مفسد في دين محمد (صلى الله عليه وآله)، وغير ذلك من التهم الباطلة، ويجيء الصلح بشروط الحسن (عليه السلام) فاضحا لمعاوية وإعلامه وفاتحا الطريق لإمامة علي (عليه السلام) من الكوفيين وغيرهم يحدَّثون بها أهلَ الشام مدة عشر سنوات من الأمان، ومن ثم فإن صلح الإمام الحسن (عليه السلام) لا تبعد عنه تسمية (الفتح المبين)، لما حققه من فضح معاوية وإعلامه الكاذب، وانتشار أخبار سيرة علي (عليه السلام) المشرقة، ومعرفة موقعه من الرسالة عبر حديث الغدير والثقلين والكساء وغيرها، التي لم يكن أهل الشام قد سمعوا بها آنذاك.

وهذا الفهم هو المناسب لقول الإمام الحسن (عليه السلام): علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي (صلى الله عليه وآله) لقريش، لان نتائج الصلح هنا هي نتائج الصلح هناك، توحدت العلة وتوحد الأثر.

الثالثة: وقع أصحاب هذه القراءة تحت ضغط الأخبار الموضوعة التي استهدفت تشويه أهل الكوفة كما استهدفت نظائرُها تشويه شخصية الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان المناسب أن تُصنّف الأخبار بخصوص أهل الكوفة إلى مجموعتين، ثم ترجّح احدهما بالمرجحات العلمية المعروفة عند تعارض الأخبار.

وقد شخّصنا ثلاثة مرجحات للأخبار المادحة وإسقاط الأخبار القادحة وهي:

1- إن المصادر التي عرضت الأخبار المادحة ورواتها هي المصادر الشيعية ورواة الشيعة، أما المصادر التي عرضت الأخبار الطاعنة فهي عامية ورواتها عامّيون عُرف الكثير منهم بممالأتهم لخلفاء الجَور من العباسيين.

2- إن الأخبار الطاعنة تعارضها حقيقة الأمان في السنوات العشر الأولى من الصلح، إذ لم يروَّع شيعي واحد في هذه الفترة.

3- إن العباسيين بعد قضائهم على ثورة الأخوين محمد وإبراهيم ولديّ عبد الله بن الحسن بن الحسن المثنى (رحمه الله) اتجهوا في إعلامهم العام وُجْهَة تسقيط الحسنيين بتشويه سيرة جدهم الحسن المجتبى (عليه السلام) فوضعوا أخبارا من قبيل: إنه باع الخلافة بدراهم من أجل شهواته، ووضعوا أخبارا أخرى تشوه سيرة الكوفيين، وإنهم تفرقوا عن الحسن (عليه السلام) وتفرقوا عن أبيه من قبل، ووضعوا على لسان الحسن (عليه السلام) أحاديث تؤكد ذلك.

 


[1] أي: القصب.

[2] تاريخ الطبري: ج6 ص109.

[3] السيادة العربية: ص٦٩.

[4] أعيان الشيعة: ج4 ص42.

[5] سورة ص: 24.

[6] علي وبنوه: ص٥٥.

[7] السيادة العربية: ص٧٠.

[8] مروج الذهب: ج2 ص332.

[9] حياة الإمام الحسن للشيخ باقر شريف القرشي: ج2 ص132.

[10] حياة الإمام الحسن للشيخ باقر شريف القرشي: ج2 ص278.

[11] الدينوري: ص٣٠٣.

[12] أعيان الشيعة: ج4 ص42.

([13]) الاحتجاج: ج2 ص10.

[14] البحار: ج47 ص298، صحيح البخاري: ج3 ص169.

[15] أنباء نجباء الأبناء: ص٥٦، لشمس الدين الصقلي: المتوفى سنة٥٦٥ هـ.‍

[16] أي: واسع الكرش والأمعاء.

[17] الاحتجاج ج2، ص 10ـ11.

[18] مروج الذهب: ج2 ص٢٩٥.

[19] كما سيظهر في القراءة الرابعة.