تفسير سورة المؤمنون: المؤمنون مؤدّون للزكاة

يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) تشير الآية الكريمة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين في سورة المؤمنون، وهي أداء الزكاة.

 وسورة المؤمنون مكية نزلت في وقت لم تشرع فيه الزكاة بمعناها المعروف، لذلك نجد اختلافا بين المفسرين في تفسير هذه الآية، ولكن الذي يبدو أصوب الآراء هو أن الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء، وإنما هناك أنواع كثيرة منها مستحبة، فالزكاة الواجبة شُرّعت في المدينة، إلا أن الزكاة المستحبة كانت موجودة قبل هذا، ولذا فالصحيح أن المراد بالزكاة هو معناها اللغوي وهو مطلق الإنفاق والتصدق على الفقراء.

وذهب مفسرون آخرون إلى احتمال أن تكون الزكاة واجبة كحكم شرعي في مكة لكن دون تحديد المقدار، حيث كان الواجب على كل مسلم مساعدة المحتاجين بما يتمكن، إلا أنه أصبح للزكاة أسلوبها الخاص عقب تشكيل الحكم الإسلامي وتأسيس بيت مال المسلمين، حيث تحددت أنصبتها من كل محصول ومال، وأصبح لها جُباة يجبونها من المسلمين بأمر من الرسول (صلى الله عليه وآله).

أما ما يراه بعض المفسرين أمثال الفخر الرازي في تفسيره الكبير، والآلوسي في (روح المعاني)، والراغب الأصفهاني في مفرداته من أن الزكاة هنا تعني عمل الخير أو تزكية المال أو تطهير الروح فبعيد، لأن القرآن المجيد كلما ذكر الزكاة مع الصلاة يقصد بالزكاة الإنفاق المالي، ولو فسرناه بغير هذا، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة لا توجد في هذه الآيات[1].

 والزكاة من أهم أركان الدين الإسلامي، وهي مقرونة فيه بالصلاة، ففي القرآن الكريم جاء ذكر الزكاة مقروناً بالصلاة في نحو ثلاثين موضعاً، وقال الإمام الباقر عليه السلام: إن الله عزّ وجلّ قرن الزكاة بالصلاة قال تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلم يُقِم الصلاة[2].

ودفع الزكاة فيه ثلاثة أبعاد: بُعد مالي وبُعد نفسي وبُعد اجتماعي:

أما البُعد المالي:

فالزكاة من أعظم النُظُم الاجتماعية في الإسلام التي أريد بها إيجاد مجتمع متكافل متضامن، بحيث لا تتجمع الثروة في أيدي بعض طبقاته ويكون الحرمان نصيب البعض الآخر، بل تتداول فيه الثروة، وينفق الغني فيه على الفقير والضعيف.

إذن: فالزكاة وقاية اجتماعية من الفقر، ومن عدم التوازن المالي بين طبقات المجتمع، وضمان للعجز الذي يصاب به بعض أفراد الأمة في حياتهم، ونظام يتكفل للأمة بتوفير العيش الكريم.

ولأهميتها البالغة في النظام الإسلامي الاقتصادي حكم الإسلام بكفر منكر وجوبها، ذلك الوجوب الثابت بالضرورة، وأوجب قتله، قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): ((من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً))[3]، وذم الإسلام مانع الزكاة وأعدّ له أشد العقاب يوم الجزاء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((ما من ذي زكاة مال نخل أو زرع أو كرم يمنع زكاة ماله، إلا قلّده الله تعالى تربة أرضه، يطوق بها من سبع أرّضين إلى يوم القيامة))[4]، وقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): ((مانع الزكاة يطوق بحية قرعاء[أي التي سقط شعر رأسها لكثره سمها] تأكل من دماغه، وذلك قوله تعالى: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[5])))[6].

دفع الزكاة اختبار:

قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): ((إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء، ومعونة للفقراء، ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله تعالى له، وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء، وحقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله، وأقسم بالذي خلَق الخلْق، وبسط الرزق أنه ما ضاع مال في بَر ولا بحر إلا بترك الزكا، وما صِيد صَيد في بَر ولا بحر إلا بتركه التسبيح في ذلك اليوم، وإن أحب الناس إلى الله أسخاهم كفاً، وأسخى الناس من أدى زكاة ماله، ولم يبخل على المؤمنين بما افترض الله تعالى لهم في ماله.

وأما البُعد النفسي:

 فالزكاة من أكبر الوسائل لتطهير النفس الإنسانية من رذيلة البخل والشُح المقيت، وتدريبها على فضيلة السخاء والبذل، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[7].

إن البخل من الصفات التي جُبلت عليها نفس الإنسان، وهو من نتائج حب المال المركب في طبع الإنسان، وقد أراد الإسلام بإيجاب الزكاة على المسلم أن يقتلع البخل من نفسه، فإن في إعطاء المسلم للزكاة من ماله مرة بعد أخرى رياضة نفسية تكون نتيجتها أن يقتلع من نفسه صفة حب التموّل والتهالك في جمع المال، ويصير البذل أمرا اعتيادياً له، يلتذّ به ويرتاح إليه، وبذلك يستبدل صفة البخل بالسخاء، والشح بالإيثار.

إن معنى الزكاة في اللغة هو الطهارة والزيادة والنمو، والذي يريده الإسلام باستعمال كلمة (الزكاة) أن يرسخ في ذهن المرء: إنك ما تنفق نفقة مادية، صغيرة أو كبيرة في سبيل إعانة إخوانك ابتغاء المرضاة للرب، إلا وهي تعود عليك بالثبات والقوة ونماء صفاتك المعنوية، وزكاة أخلاقك العامة.

وأما البُعد الاجتماعي:

 فمن حق الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق المالي، فإن الإنسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه ولا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة وأمتعة العيش، والإنفاق المالي على الفقراء والمساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية[8].

 فإن تشريع الزكاة يزيل من نفوس أبناء المجتمع ما خلقه المال من البغضاء والكراهية، نتيجة لتميز طبقة على أخرى، ويوجب المحبة في قلوبهم، ويحقق الإخاء والصفاء فيما بينهم، ويدفع بهم إلى التعاون على البر والتقوى، والتعاضد على الإثم والعدوان، وبذلك يضمن لهم هناء العيش واطمئنان الحياة.

مجلة بيوت المتقين العدد (5)

 


[1] تفسير الأمثل 10/420.

[2] الحدائق ج12 ص4 ط النجف.

[3] الحدائق ج12 ص4 ط النجف.

[4] نفس المصدر ج12 ص4.

[5] آل عمران: 180.

[6] الحدائق ج12 ص4 ـ 5 ط النجف.

[7] سورة التوبة/103.

[8] الميزان 15/10.