عندما نخرج من صحن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الباب المعروفة باسم باب الطوسي، هناك مسجد شهير وعظيم بالنجف وهو على مقربة أمتار من الصحن المبارك، هذا المسجد اسمه مسجد الشيخ الطوسي، وباب الصحن الشريف أيضا تسمى باسم هذا العالم العظيم الشيخ الطوسي، ويقع في محلة العمارة من الجهة الشمالية للصحن الشريف في أول شارع الطوسي اليوم.
وهو من المساجد القديمة، وقد كان في الأصل داراً لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي منذ أن وطأت قدمُهُ أرض النجف عام 448هـ، وبعد وفاته عام 460 أوصى أن يدفن فيه، وأن يجعل مسجداً من بعده، وقد دفن فيه فعلاً ومعه ولده الشيخ الحسن بن محمد الطوسي، وما زال قبر الشيخ الطوسي قائما في وسطه يتبرك الناس به، وبإزائه مقبرة السيد محمّد مهدي بحر العلوم.
ويعد مسجد الطوسي من المساجد المهمة في مدينة النجف الأشرف، حيث يعتبر هذا الجامع مركزاً للعلم والتحصيل وتدريس طلاب الحوزة العلمية في كل أدواره وتقام فيه الفواتح والمجالس الحسينية وصلاة الجماعة، وقد أقام الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) الصلاة فيه، وألقى الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، وشيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والسيد محسن الحكيم، والسيد محمد تقي بحر العلوم بحوثهم فيه، وكان الإمام السيد محسن الحكيم يحاضر في الفقه صباحا في هذا المسجد، والعلامة الشيخ حسين الحلي يحاضر عصراً، والعلامة الشيخ باقر الزنجاني يحاضر ليلاً.
وقد مرّت على مسجد الشيخ الطوسي تجديدات عديدة إلى أن وصل إلى وضعه الحالي، فقد جُدّد بناء المسجد في سنة 1198هـ، ومرة أخرى في سنة 1305هـ، وأخرى في عام 1380هـ، وفي عام 1369هـ/1950م فتحت الحكومة شارع الشيخ الطوسي فأقتطع من المسجد قرابة ثلاثة أمتار على طول جبهته، فأصبح للمسجد بابان أولهما تطل على الزقاق الخلفي للمسجد، والثانية تطل على الشارع العام، وتبلغ مساحة مسجد الشيخ الطوسي في الوقت الحاضر (31مترا طولا و17مترا عرضا)، بما في ذلك حرم وساحة ومقبرة السيد بحر العلوم ومرافق المسجد.
الشيخ الطوسي شيخ الطائفة:
الشيخ الطوسي هو محمد بن الحسن بن علي بن الحسن (385 هـ -460هـ) المعروف بشيخ الطائفة وهو أحد عظماء الإسلام، من مواليد طوس في إيران، وطوس هي مشهد الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، فهذا الرجل العظيم بدايته عند الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) ونهايته عند الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام).
ولد الشيخ الطوسي في شهر رمضان عام 385 هجرية وكانت حياته غنية بالفضائل والمكارم والعطاء الضخم على مختلف الأصعدة خصوصاً في مجال تراث أهل البيت (عليهم السلام) وفي مجال نشر علومهم، وقد مرت حياته بثلاثة مقاطع: المقطع الأول منها قضاه في مدينة طوس، حيث شرع فيها ببدايات تحصيل العلم وقضى فيها ما يزيد قليلاً على عشرين سنة، ثم انتقل من هناك إلى مدينة بغداد وهو المقطع الثاني من حياته الشريفة، والمقطع الثالث انتقاله من بغداد إلى النجف الأشرف.
لا نمتلك معلومات عن عطائه وممارسته الدور العلمي في طوس لكن أثناء إقامته في بغداد التي قدم إليها سنة 408 هـ وهو في سن الثالثة والعشرين تقريباً، والتي قضى فيها قرابة الثلاثين عاماً كانت هذه الفترة حافلة بأوسع العطاءات العلمية، وقال عنه المؤرخون والكتّاب بأنه حينما كان في بغداد ملأ الدنيا صيته وارتبط بالكثير من الأعلام ومشاهير الكتّاب، حيث تتلمذ على يد الشيخ المفيد (المتوفى سنة 413هـ) خمس سنوات وعلى يد ابن الغضائري (المتوفى سنة 411هـ) ثلاث سنوات على يد ابن الحاشر البزاز وابن أبي جيد، وشارك النجاشي (372-450هـ) في بعض مشايخه، وأدرك السيد المرتضى (المتوفى سنة 436هـ) ولم يدرك الشريف الرضي، وبعد ذلك لما ارتحل الشريف المرتضى(قدس سره) عام 436 هجرية ثنيت للشيخ الطوسي وسادة المرجعية وزعامة المذهب الجعفري، حيث أصبح زعيم الطائفة بشكل عام، ومرجعاً عاماً للإمامية في العالم كله.
أسند إليه الخليفة العباسي كرسي علم الكلام في بغداد، وكان له مشروع علمي ضخم هناك حيث شكّل مدرسته العلمية وانضم إليها المئات من الطلبة من مختلف البلاد الإسلامية، ومن عموم المذاهب، واستطاع أن يربّي نخبة كبيرة من التلاميذ والعلماء وكان كل واحد منهم ينبوعاً من ينابيع العلم.
المتخصصون في ترجمة هذا الراحل العظيم لما رجعوا إلى الأوراق والوثائق والرسائل اكتشفوا فيها أن الشيعة وغير الشيعة من مختلف نقاط العالم الإسلامي وحتى من بلدان أخرى أحبار وقساوسة أيضا كانوا يراسلونه في مسائل تتعلق بعلم الكلام، وعلم الأصول، في نقاشات علمية وغيرها يستوحي الكتّاب من ذلك أنه كان مرجعاً لعموم الشيعة في العالم كله.
وظل الشيخ الطوسي محتفظاً بمنصبه إلى أن هاجم السلاجقة بغداد، وهؤلاء معروفون بوحشيتهم وفوضويتهم وحقدهم على التشيع، فدمروا ما دمروا، واتلفوا ما اتلفوا، واحرقوا ما احرقوا، وقتلوا من قتلوا، وطالت هجمتهم منزل الشيخ الطوسي ومكتبته العامرة العظيمة، فأحرقوها ودمروها تدميراً كاملاً، وتبدد وتلف ذلك التراث الذي قدم الشيخ الطوسي من أجله حياته وسهر عليه الليالي، وعلى إثر ذلك اضطر شيخ الطائفة إلى أن يهاجر إلى النجف الأشرف عام 460هجرية واختار جوار الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهذا له معنى خاص، فمن المعروف أن تلاميذ أفلاطون لما كانت تستعصي عليهم مسألة علمية يأتون إلى قبره باعتبار أن الروح دائماً تجاور محل دفن الجسد فتلاميذه كانوا يفسّرون عملهم هذا بأن روح أفلاطون تمدهم بالعلم وتساعدهم وتغطيهم بالفيض، فكيف بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله)، الإمام علي (عليه السلام)الذي هو كنز علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاختار الشيخ الطوسي انطلاقاً من هذا المعنى جوار الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وانشأ هناك وجوداً علمياً، فقد اجتمع إليه جماعة من الطلبة واختار منزلاً بسيطاً وهو الآن مسجد الشيخ الطوسي، بعد ذلك اتسعت مدرسة الشيخ الطوسي في النجف وأخذت تتقدم يوماً بعد يوم، وقد خدم العالم الإسلامي لا سيّما مذهب الإمامية خدمات جليلة من خلال تربية آلاف التلاميذ، والذين من بينهم العشرات من العلماء والمجتهدين، كما قدّم تراثاً علمياً ضخماً حيث ألّف العشرات من الكتب العلمية الخالدة والتي لا يزال لها أثرها المشهود، فقد زادت مؤلفاته على الخمسين مؤلفاً في مختلف العلوم، ومن خدماته تأسيس طريقة الإجتهاد المطلق، وتأليف الكتب الكاملة والقيمة في الفقه والأصول، وجعل اجتهاد الشيعة مستقلاً في مقابل اجتهاد أهل السنة خصوصاً مذاهبهم المهمة.
وفي عام 460 توفي الشيخ الطوسي عن عمر ناهز الخامسة والسبعين سنة في النجف وبوصية منه دفن في بيته، وبوصية منه تحول بيته إلى مسجد، وأصبح الآن مسجده من أشهر المساجد وفيه مزاره يؤمّه الناس وعرف باسمه وهو مؤسس الحوزة العلمية في النجف، نسأل الله له الرحمة والرضوان.
مؤلفاته:
للشيخ الطوسي مؤلفات عديدة أهمها:
(تهذيب الأحكام): أحد الكتب الأربعة والمجاميع القديمة المعوّل بها عند الأصحاب، أستخرجه الشيخ من الأصول المعتمدة للقدماء، (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار): وهو أحد الكتب الأربعة أيضاً ومن المجاميع الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعية عند الفقهاء الاثني عشرية منذ عصر المؤلف حتى اليوم، ومنها أيضاً: اختيار معرفة الرجال، الأمالي، التبيان في تفسير القرآن، تلخيص الشافي، تمهيد الأصول، الجمل والعقود، الخلاف في الأحكام، رياضة العقول، العدة في الأصول، الغيبة، الفهرست، المبسوط، مصباح المتهجد، مقتل الحسين(عليه السلام)، والكثير من الكتب الأخرى.
المصدر: بيوت المتقين (29) شهر جمادى الاولى 1437هـ