دورها (عليها السلام) في كربلاء

لم تكن قضية كربلاء بالأَمر المفاجئ على السيدة زَيْنَب بنت أَمير المؤمنين(عليها السلام)، أَو من وحي الصدفة، بل كانت تعلم بها منذ نعومة أَظفارها ،كما كانت تعلم بأَنها شريكة أَخيها الإِمام الحسين(عليه السلام) وأَنّ لها دوراً مميزاً ملقاً على عاتقها، الأَمر الذي جعلها أَن تتمرّس على أَدائه وتفنن بإِتقانه حتّى جرى منها مجرى الدم في العروق، والظل الذي لا يفارق شخصه، فكانت يوم العاشر  مهيأة نفسيّاً وذهنيّاً لتلك الواقعة.

صحيح أَنّ أَحداث كربلاء قبل وقوعها كانت في رحم الغيب ولا يعلم الغيب إِلا الله، ولكن من الصحيح أَيضاً أَنّ الله تعالى قد كشف لنبيه الأَعظم(صلى الله عليه وآله) أَستار الغيب، وأَظهره عليه، يقول تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)[1].

إِلا أَنّ الله أَخبر رسوله الأَكرم(صلى الله عليه وآله) بالمغيّبات، وهذا مما لاشك فيه، وقد ذكرته مصادر الفريقين بالإِجماع، ومن تلك المغيّبات التي تحدّث عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله) واقعة كربلاء، وأَهل البيت(عليهم السلام)
المعنيون بتلك الواقعة، فكانوا في طليعة من أَحاطهم الرسول بها علماً، كما يؤكد ذلك مختلف المصادر الحديثية والتاريخية.

ومن الطبيعي جداً أَن تكون السيدة زَيْنَب(عليها السلام) في أَجواء تلك النبوءة، وعلى معرفة بالخطوط العامة للحادثة، بل وببعض تفاصيلها وجزئياتها.

وقد صرّحت العقيلة زَيْنَب(عليها السلام) بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء في الحديث الذي نقله ابن قولوية القمي (المتوفى سنة: 367 هـ أو 368 هـ ) في كتابه (كامل الزيارة)، والحديث مروي بسند متصل إِلى الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) قال:

(إِنه لمّا أَصابنا بالطف ما أَصابنا، وقُتل أَبي(عليه السلام)، وقُتل من كان معه من ولده وإِخوته وسائر أَهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأَقتاب يراد بنا الكوفة، فجُعلت أَنظر إِليهم صرعى، ولم يواروا، فيعظم ذلك في صدري، ويشتد لما أَرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك مني عمتي  زَيْنَب بنت عليٍّ الكبرى، فقالت: ما لي أَراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأَبي وإِخوتي؟

فقلت: وكيف لا أَجزع ولا أَهلع، وقد أَرى سيدي وأُخوتي وعمومتي، وولد عمي وأَهلي مصرّعين بدمائهم مرّملين بالعراء، مسلّبين لا يكفّنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أَحد، ولا يقربهم بشر، وكأنهم أَهل بيت من الديلم والخزر؟

فقالت: لا يجزعنك ما ترى: فوالله إِنَّ ذلك لعهدٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إِلى جدك وأَبيك وعمك، ولقد أَخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأَرض، وهم معرفون في أَهل السماوات، إِنهم يجمعون هذه الأَعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أَبيك سيد الشهداء، لا يُدرس أَثره، ولا يصفو رسمه، على كرور الليالي والأَيام، وليجتهدنَّ أَئمة الكفر، وأَشياع الضلالة، في محوه وتطميسه، فلا يزداد أَثرهُ إِلا ظهوراً، وأَمرهُ إِلا عُلوّاً.

فقلت: وما هذا العهد وما هذا الخبر؟

فقالت: حدثتني أُمُّ أَيمن - مولاة رسول الله - أَن رسول الله(صلى الله عليه وآله) زار منزل فاطمة(عليها السلام) في يوم من الأَيام، وتستمر السيدة زَيْنَب(عليها السلام) في حديثها الطويل لابن أَخيها زين العابدين(عليه السلام) نقلاً عن أُمُّ أَيمن وهي تعدد ما يجري على أَهل البيت(عليهم السلام) من حوادث بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)
حسب ما أَخبر به رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء، ثم تعقّب السيدة زَيْنَب(عليها السلام) على ما نقلته عن أُمِّ أَيمن بقولها: (فلمّا ضرب ابن ملجم (لعنه الله) أَبي(عليه السلام) ورأيت أَثر الموت منه قلت: يا أَبه حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أَحببت أَن أَسمعه منك، فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أُمُّ أَيمن وكأني بك وببنات أَهلك سبايا بهذا البلد - أَي الكوفة - أَذلاء خاشعين)[2].

ولأَجل هذه المعرفة الكامنة في ذهن ومشاعر السيدة زَيْنَب(عليها السلام) نجدها قد أَخذت موقهعا التاريخي بوعي وإِدراك مسبق جنباً إِلى جنب ابن أَخيها الإِمام المعصوم زين العابدين(عليه السلام)، وأَنها كانت المبادرة للمشاركة، كما احتفظت بزمام الأَمر في مختلف المواقع والوقائع الثورية.

ويحدثنا التاريخ أَنّ السيدة زَيْنَب(عليها السلام) هي التي قررت وأَرادت الخروج مع أَخيها الحسين(عليه السلام) في ثورته، مع أَنها من الناحية الدينية والاجتماعية في عهدة زوجها عبد الله بن جعفر، والذي كان مكفوف البصر، كما كانت ربة منزلها والقائمة بشؤون أَبنائها، وكل ذلك لم يمنع التحاقها بركب أَخيها الحسين(عليه السلام)، إِذ أَنها اشترطت على زوجها الخروج مع أَخيها من ضمن شروط عقد الزواج، كما أَنها أَعربت عن مشاركتها منذ اليوم الأَول لخروج الإِمام الحسين(عليه السلام) من مدينة جدّه(صلى الله عليه وآله)، وذلك حينما اعترضه ابن عباس على أَن لا يخرج معه عياله وأطفاله، فسمع، قائلةً: ( تقول: يابن عباس تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده ؟ لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟ فالتفت ابن عباس وإذا المتكلمة هي زينب)[3] فالإِمام الحسين(عليه السلام) بالنسبة إِلى السيدة زَيْنَب(عليها السلام) يمثل أَعزّ شيء على قلبها، وأَقرب شيء إِلى نفسها في هذه الحياة، فكل هذه الاستعدادات أَهلتها للوقوف والتصدي للمؤامرات الأُموية بصبر لا تتحمله الجبال الرواسي، وبثقة عالية بقضاء الله وقدره معتبرة ذلك ابتلاءاً وامتحاناً إِليها لابد لها من النجاح فيه، بل إِنها وفي أَشدّ المواقف وأَفظعها كانت لا تنفك من الدعاء والتضرع إِلى الله بقبول عملها كجزء واجب تخشى عن القصور في تأديته، فكانت تضع يديها الكريمتين تحت جسد أَخيها أَبو عبد الله(عليه السلام)
وترفعه إِلى السماء قائلةً: (اللُّهمَّ تقبلْ مِنّا هذا القُرْبان)[4].

وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الإِيجابية لما حصل لها ولأَهل بيتها من مصائب وآلام، حيث تقول(عليها السلام):

(...فالحمدُ لله ربِّ العالمين، الذي ختم لأَولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة الرحمة، ونسأل الله أَن يُكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إِنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل)[5].

 


[1]  سورة الجن: آية60.

[2]  كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه: ص444.

[3]  زَيْنَب الكبرى، جعفر النقدي: ص94.

[4]   حياة الإمام الحسين، الشيخ باقر القرشي: ج 3، ص 304.

[5]  المصدر السابق: ج 3، ص 380.