المؤمنون وجلون تفسير سورة المؤمنون

قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[1].

إن هذه الآية جاءت لتبين لنا صفة من الصفات النادرة الفريدة التي جعلت من هؤلاء المؤمنين مستحقّين لجنّات الله ونعيمه المقيم..

وهي صفة الوجل والخوف، وقوله: (يُؤْتُونَ مَا آتَوا) أي يعطون ما أعطوا من المال بالإنفاق في سبيل الله وقيل: المراد بإيتاء ما آتوا: إتيانهم بكل عمل صالح، وقوله: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) حال من فاعل (يُؤْتُونَ)، والمعنى والذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالأعمال الصالحة والحال أن قلوبهم خائفة من أنهم سيرجعون إلى ربهم[2].

فسبب هذا الوجل هو علمهم بأنهم سيرجعون إلى الله تعالى ويحاسبون حساباً دقيقاً لا يعلم معه ما هي نتيجة أعمالهم إذ الإنسان بصير بحاله ويعرف أن عمله لا يخلو عن بعض الهفوات التي تجعله غير حائز لمرتبة الرضا عند الله عز وجل.

فالمؤمنون ليسوا كالشخص الكسول الدنيء الهمّة الذي يأتي بأقل الأعمال ثم يتصور أنه من المقربين عند الله، ويتملكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين صغاراً وحقراء، بل إن هؤلاء لا يطمئنون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما، بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين، ومع كل هذا يقولون: آه من قلة الزاد وبعد السفر! [3].

فقلوبهم وجلة خائفة مرتعبة مضطربة لا تسكن ولا تهدأ، وهذه من أجلّ وأعظم ميزات القلوب الحيّة.... إنها قلوب وجلة خائفة تبحث عن الأمان يوم القيامة ولو بقيت حياتها الدنيا كلها في خوف ووجل ونحن جميعاً نتذكر الآن ما جاء في الخبر: (لا أجمع على عبد خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة)[4].

ثم تسأل بينك وبين نفسك: ما الذي يخيفهم ويجعلهم في وجل؟؟ ليأتيك الجواب الرباني: (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) كل خوفهم ووجلهم هو من مغبّة الحساب والمناقشة ومن احتمال عدم القبول للصالحات التي أجهدوا أنفسهم في جمعها في الدنيا.. يخافون أن تكون عاقبتهم كالذين حكى الله تعالى عنهم في كتابه بقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)[5].

إن ارتباط المؤمن بالآخرة كقوله تعالى: (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) من أعظم ما يعينه على نفسه وهواه والشيطان وهو من صفات الأنبياء الأخيار والرسل الأبرار كقوله تعالى: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)[6].

قال بعض السلف: (إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً).

ولكن رغم هذا الخوف والوجل فلم ينشغلوا به عن العمل والبذل.. ولذلك جاء الفعل المضارع (يؤتون) والفعل المضارع عند أهل اللغة يفيد الاستمرار..

فهم يعملون ويقدّمون ويلازمهم وجل من عدم القبول فيحاسبون أنفسهم.. ويراجعون نياتهم ومقاصدهم لتخلص لله رب العالمين.. فكم من الكلمات تكتب وتقرأ ولا تدري أيّها قبله الله منك؟؟ وكم من الأقوال تتفوه به ولا تدري أيّها قبله الله منك؟؟ وكم من الطاعات تفعل ولا تدري أيّها قبله الله منك؟؟ فالمؤمنون وجلون أن لا يُقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذون به لأن مرجعهم إليه وهو يعلم ما يخفى عليهم.

فهم يؤمنون بأن الله أعلم بما في صدور العالمين (إن الله عليم بذات الصدور) وأن الله يوم القيامة سيبتلي ما في السرائر ويختبر ما في الضمائر (يوم تبلى السرائر).

وفي المجمع في قوله: (وقلوبهم وجلة) قال أبو عبد الله (عليه السلام): (معناه خائفة أن لا يقبل منهم، وفي رواية أخرى: أتى وهو خائف راج)[7].

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): (يؤتي ما آتى وهو خائف راج)[8].

وفي رواية عن أبي عبد الله (عليه السلام): (آتوا والله الطاعة مع المحبة والولاية، وهم في ذلك خائفون، ليس خوفهم خوف شك، ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا)[9].

 وفي الدر المنثور عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: لا ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه.

خوف أمير المؤمنين (عليه السلام) من الله تعالى:

ولنا أن نعرف معاني القرآن ممن له تجسيد له في حياته فكان بحق قرآناً ناطقاً وهو أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة من بعده لذا ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله) قوله: (علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)[10]، فلنستعرض جملة من صور الخوف والوجل التي كان يعيشها سلام الله عليه ليكون بذلك تجسيداً فريداً لهذه الآية ومصداقاً أكمل لها.

قال أبو الدرداء: شاهدت علي بن أبي طالب بسويحات بني النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه وقد استتر ببعيلات النخل فافتقدته وبَعُدَ عليّ مكانه فقلت: لَحِق بمنزله، فإذا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: (إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا راج غير رضوانك)، فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب بعينه، فاستترت لأسمع كلامه وأخملت الحركة فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والتضرع والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله عز وجل أن قال: (اللهم إني أفكر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي، ثم قال: آه إن قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء، ثم قال: آه من نار تُنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة في ملهبات لظى).

ثم أمعن -أي زاد- في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرك وزوّيته فلم ينزوِ، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة: يا أبا الدرداء ما كان من شأنه وقصته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله تعالى، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إليّ وأنا أبكي فقال: ما بكاؤك يا أبا الدرداء؟

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء! فكيف لو رأيتني وقد دُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد وزبانية فظاظ، وأوقفت بين يدي الجبار، وقد أسلمني الأحبّاء ورحمني أهل الدنيا لكنتَ أشدّ رحمة لي بين يدي من لا يخفى عليه خافية، قال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)[11].

بعض الروايات حول الخوف والرجاء:

وفي الختام نذكر لكم بعض الروايات حول الخوف والرجاء من كتاب الكافي[12]:

1- عن الصادق (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: (إنه ليس من عبد مؤمن إلا [و] في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا).

2- قيل لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (ما كان في وصية لقمان؟ قال: كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك.....)

3- وقال الصادق (عليه السلام) لإسحاق بن عمار: (يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك [في نسخة: إليك]).

4- وعن الحسن بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو).

5- وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف).

مجلة بيوت المتقين العدد (12)

 


[1] المؤمنون:60.

[2] الميزان:15/40.

[3] الأمثل 10/470.

[4] بحار الأنوار ج 74 ص79.

[5] الفرقان: 23.

[6] ص: 46.

[7] الميزان:15/50.

[8] مجمع البيان 7 - 8: 110.

[9] الكافي 2: 457، الحديث: 15.

[10] البحار، ج 38: ص 36.

[11] تنبيه الخواطر: 2 / 156.

[12] ج2 /ص67.