العلم بالغيب من منظور أهل البيت (عليهم السلام)

1- عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ فَقَالَ لَه: أتَعْلَمُونَ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يُبْسَطُ لَنَا الْعِلْمُ فَنَعْلَمُ ويُقْبَضُ عَنَّا فَلَا نَعْلَمُ وقَالَ سِرُّ الله عَزَّ وجَلَّ أَسَرَّه إِلَى جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) وأَسَرَّه جَبْرَئِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وأَسَرَّه مُحَمَّدٌ إِلَى مَنْ شَاءَ الله»[1].

2- عَنْ مُصَدِّقِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: «لَا ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ»[2].

3- عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَعْيَنَ يَسْأَلُ أَبَا جَعْفَرٍ(عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (بَدِيعُ السَّماواتِ والأَرْضِ)، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ(عليه السلام): «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِعِلْمِه عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ قَبْلَه فَابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ ولَمْ يَكُنْ قَبْلَهُنَّ سَمَاوَاتٌ ولَا أَرَضُونَ أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه تَعَالَى: (وكانَ عَرْشُه عَلَى الْماءِ)، فَقَالَ لَه حُمْرَانُ أرَأَيْتَ قَوْلَه جَلَّ ذِكْرُه: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِه أَحَداً)، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ(عليه السلام): «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ»، وكَانَ والله مُحَمَّدٌ مِمَّنِ ارْتَضَاه وأَمَّا قَوْلُه:
(عالِمُ الْغَيْبِ)، فَإِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ عَالِمٌ بِمَا غَابَ عَنْ خَلْقِه فِيمَا يَقْدِرُ مِنْ شَيْءٍ ويَقْضِيه فِي عِلْمِه قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَه وقَبْلَ أَنْ يُفْضِيَه إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَذَلِكَ يَا حُمْرَانُ عِلْمٌ مَوْقُوفٌ عِنْدَه إِلَيْه فِيه الْمَشِيئَةُ فَيَقْضِيه إِذَا أَرَادَ ويَبْدُو لَه فِيه فَلَا يُمْضِيه فَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يُقَدِّرُه الله عَزَّ وجَلَّ فَيَقْضِيه ويُمْضِيه فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي انْتَهَى إِلَى رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله) ثُمَّ إِلَيْنَا»[3].

الشرح:

حينما سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (بَدِيعُ السَّماواتِ والأَرْضِ)، قَالَ(عليه السلام): «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِعِلْمِه»، البديع بمعنى الفاعل وهو الذي يفعل فعلاً لم يسبق مثله، وقد يكون بمعنى المفعول وأما نفس ذلك الفعل أو الفعل الحسن المشتمل على نوع من الغرابة لمشابهته إيّاه في كونه محلّ التعجّب منه وليس بمراد هنا.

وقوله(عليه السلام): «عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ قَبْلَه»، وفيه تنزيه له عن صفات الصانعين من البشر فإنّ صنايعهم تحذو حذواً ومثله سبقت من غيرهم أو حصلت في أذهانهم بإلهام فلا يكون على غير مثال.

وقوله(عليه السلام): «أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه تَعَالَى: (وكانَ عَرْشُه عَلَى الْماءِ)»، استشهاد لما تقدّم لإفادة أن الماء أوّل الموجودات الممكنة وأصلها ولا أصل له وإن عرش الواجب يعني علمه المتعلّق بالموجودات كان على الماء فقط إذ لم يكن حينئذ شيء من الجسم والجسمانيات موجوداً غيره ثم خلق منه السماوات والأرضين؛ ويدلّ على ذلك ما روي عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة: «وكَانَ الْخَالِقُ قَبْلَ الْمَخْلُوقِ...، ولَكِنَّه كَانَ إِذْ لَا شَيْءَ غَيْرُه وخَلَقَ الشَّيْءَ الَّذِي جَمِيعُ الأَشْيَاءِ مِنْه وهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خَلَقَ الأَشْيَاءَ مِنْه فَجَعَلَ نَسَبَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ ولَمْ يَجْعَلْ لِلْمَاءِ نَسَباً يُضَافُ إِلَيْه».

ورد الإمام(عليه السلام) على السائل بقول الله تعالى: (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)، لمّا توهم السائل اختصاص علم الغيب به تعالى نبّه(عليه السلام) بذكر الاستثناء على ثبوته لمن ارتضاه.

ثم بين قول الله تعالى: «(عالِمُ الْغَيْبِ)، فَإِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ عَالِمٌ بِمَا غَابَ عَنْ خَلْقِه فِيمَا يَقْدِرُ مِنْ شَيْءٍ ويَقْضِيه فِي عِلْمِه قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَه وقَبْلَ أَنْ يُفْضِيَه إِلَى الْمَلَائِكَةِ»، لعل المراد أنه تعالى عالم بالشيء قبل أن يخلقه ويظهره للملائكة في حال تقديره وقضائه وذلك موقوف عنده لأن ذلك الشيء في محل البداء ولله فيه المشيئة فيمضيه إذا أراد أمضاه ولا يمضيه إذا أراد عدم إمضائه وهذا علم بالغيب مختص به، وأما الذي قدّره وقضاه وأمضاه فهو الذي أظهره للملائكة والأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وبالجملة العلم قسمان:

علم موقوف وهو العلم بالأشياء قبل إمضائها في حال المشيئة والإرادة والتقدير والقضاء فإنّها في هذه المراتب في محل البداء، فإذا تعلّق بهذا الإمضاء بعد القضاء خرجت عن حدّ البداء ودخلت في الأعيان، وعلم مبذول وهو العلم بالأشياء بعد تعلّق الإمضاء.

وقوله(عليه السلام): «إِلَيْه فِيه الْمَشِيئَةُ»، المشيئة مبتدأ و (فِيه) متعلّق بها و (إِلَيْه) خبر أي: المشيئة فيه إلى الله تعالى.

وخلاصة القول:

إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام) يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، ولكنّهم يتّصلون بالغيب وقت الضرورات القُصْوَى، وإنّ عِلْمَهم بالغيب ليس ذاتيّاً ولا مستقلاًّ ولا مطلقاً، بل هو فيض إلهي من الله ربّ العالمين، إن شاء أعلمهم، وإن لم يشاء لم يعلمهم.

مجلة بيوت المتقين العدد (73)

 


[1] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص٢٥6.

[2] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص٢٥7.

[3] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص٢٥6.