ذكر القرآن الكريم المترفين في عدة آيات، والوصف الجامع لهم هو الكفر والعداء للأنبياء والرسل (عليهم السلام)، والأحكام السماوية، فهم أصحاب عقائد فاسدة، وتحدث القرآن الكريم عن هلاكهم وإهلاك من يسعى مسعاهم ويسير على منهجهم، فمن هم المترفون؟ وما هي صفاتهم السيئة وعقائدهم التي ذكرها القرآن الكريم؟
الـمُتْرَفُ: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ، الـمُتَنَعِّمُ الـمُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها.
وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه. لسان العرب: مادة ترف.
إذاً المترف ليس مطلق المتنعم بنعم الدنيا، وإنما يختص الوصف بمن تنعم بها بطريقة سلبية، وأثرت في توجهاته بصورة سيئة، فيتعدى بذلك حدود الآداب والسلوك.
والترف في المعنى القرآني لا يبتعد عن المعنى اللغوي، فالمترف هو المنغمس في التنعم بملذات الدنيا المادية، ولم يلتفت إلى النعم والآثار المعنوية، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾[1] فإن المترفون في هذه الآية الكريمة اعتمدوا في نكرانهم للنبوة وعدم وجود ما يميز رسولهم عنهم على أمور مادية بحتة تتمثل في الأكل والشرب، وهذا يثبت انهماكهم في النعم المادية وتعلقهم بها، دون الأمور المعنوية، ﴿... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ...﴾.[2]
ومن صفات المترفين الكفر، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.[3]
ومنها عدم الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾.[4]
ومن صفات المترفين الفساد والإفساد، قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾[5]، قال صاحب الميزان أن الأمر هنا يعني” الإكثار من إفاضة النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الإملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب“. فالله تعالى لا يأمر بالفسق ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.[6]
وإرادة الله هنا يحتمل أن تكون حقيقية، أي أن الله يريد أن يهلكهم، وحقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشيء، وتعاضدها على وقوعه، وتحقق ما لهلاكهم من الأسباب وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد).[7]
ومن سماتهم الاستهانة والاستخفاف بالمرسلين، فكانوا يستخفون بالرسل بغية إضلال الآخرين وإبعادهم عن طريق الحق، فقد حكى القرآن الكريم آيات في سورة المؤمنون عن لسانهم في ذلك الاستخفاف والاستهزاء، قال تعالى: : ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [8]
ومنها أيضاً أنهم سبب لدمار وإهلاك المدن والقرى التي يعيثون فيها وينشرون فيها الظلم والفساد: قال تعالى: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾[9]، وقال تعالى: ﴿... وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾.[10]
ولذا ينبغي للإنسان الواعي أن يتبع أساليب وطرق بتخلص بها من كفران النعمة ويتجنب سلوك المترفين السلبي، ومن تلك أساليب:
الشكر: فعندما يعوّد الإنسان حياته على الشكر بجميع مراتبه (القلبي واللفظي والعملي) فإنه يعيش أجواء النعمة الإيجابية، ويكون شاكراً في كلّ حال، فلا تغرّه الثروة ولا يغويه المنصب ويشفق على الفقراء، كما أنّ التوفيق للشكر كذلك من نعم الله التي تستحق شكر الله عليها.
ومنها: الانفاق: يمثل الترف ظاهرة اجتماعية سيئة، وهي تفقد الإنسان الإحساس بالآخرين، وتنمي في الإنسان الأنانية والفردية في السلوك، ولكن نستطيع التغلب على هذه الحالة السلبية بإذابة الرؤية الأنانية الفردية، وذلك عن طريق الانفاق ومواساة الآخرين، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)[11].
وليكون الانفاق والإحسان براً وخيراً - كما أخبر الله تعالى – فلا بد أن يتعلق فيما نحب ونرغب، لأنّ التعلّق بالدنيا هو الذي يسبب الترف، قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[12].
ومنها: التربية الإيمانية: يعتبر الهوى وإلحاح الغرائز بداية طريق المشاكل الشهوانية التي تربط وتشد الإنسان للدنيا، وقد تؤسس الانحراف وطغيان الإنسان عندما لا تجد تنظيماً حياتياً متوازناً يضبطها، إذن لكي نقف سداً أمام مغريات الدنيا ولكي نتخلص من آثار الترف في حياتنا لابدّ أن تكون البنية الأساسية للأسرة قائمة على الإيمان والتقوى والإعراض عن التعلق بالدنيا.
وهذا أمر ممكن جداً في وقتنا الحاضر، فوسائل التعليم والثقافة متوفرة في كل زمان ومكان، وإن كان ثمة صعوبة، فهي تكمن في وضع نظام في طريقة التعامل مع وسائل المعرفة المختلفة واستخلاص المفيد النافع منها.
لذا ينبغي تحصين الأسرة من سلوك الترف وآثاره، فكثير من الأسر اليوم نتيجة لضغوط الحياة تكون قليلة الاهتمام بأولويات العيش الإنساني الصحيح، فينصب اهتمامها مثلاً على حاجات المأكل والملبس والشؤون المادية الأخرى، ويعتبر الأب أو الأم أن ذلك هو الواجب الأهم تجاه أسرهم، فيكبر ويتربى الأبناء دون اهتمام كاف بتقويم السلوك وبناء الشخصية المتزنة، وتغذية لروح بالفضائل والمكارم ومحامد الصفات.
[1] المؤمنون، الآية:33.
[2] محمد، الآية: 12.
[3] سبإ، الآية: 34.
[4] الواقعة، الآيات: 45 – 48.
[5] الإسراء، الآية: 16
[6] الأعراف، الآية: 28.
[7] إبراهيم، الآية: 7. ينظر: تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: - ج ١٣ - ص٦٠.
[8] المؤمنون، الآيات: 34 - 38.
[9] الأنبياء، الآيات: 11 – 14.
[10] هود، الآية: 116.
[11] النحل، آية، 90.
[12] آل عمران، آية،92.