لم يكن موضوع توريث الأنبياء قبل رحيل نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) مثاراً لجدال أو نقاش، لعدم وجود حكم جديد في الإسلام في مسألة الوراثة، ولعدم ذكر تخصيص للنبي (صلى الله عليه وآله) يخرجه عن حكم الميراث الثابت لبقية المسلمين، لكنّه أصبح مسألة شديدة الخلاف بعد رحيله(صلى الله عليه وآله) لحديث أتى به أبو بكر في حق إرث النبي(صلى الله عليه وآله) لحديث خاص لم يسمعه إلّا هو من النبي(صلى الله عليه وآله)، وهو ما ادّعاه من أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «نَحْنُ مَعَاشِرُ الأَنْبِياءِ لَا نُوِّرْثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً»[1].
وهذا الحديث عليه تساؤلات عقلائية ودلالية تمنع من الجزم بصدوره عن النبي(صلى الله عليه وآله) حَتَّى مع دعوى البَعْض بوجود أَسَانيدَ كثيرة له، فَالشبُهاتُ مستحكمة ومضعّفة لاحتمال صدوره عن النبي(صلى الله عليه وآله).
مجموع الشبهات يتمثل في أنّه بما أنّ الأمر يخص انتقال الإرث من والد أو زوج إلى أولاده وأمهم؛ فمن الضروري أن يعلم هؤلاء المعنيين بالأمر صدور ذلك التخصيص ومنع الإرث عنهم من الوارث، أمّا أنّ الوارث يتكلّم مع شخص غريب في الموضوع ويبلغه بتغير حكم الإرث في حقه؛ ويأتي ذلك الغريب ويفاجئ الورثة بذلك السر فهو أمر بعيد عقلاً، ويزداد البعد إذا علمنا مدى حب النبي لابنته، إلى الحد الذي يقرن رضاها برضاه وغضبها بغضبه، أليس من المفروض أن يصل الشأن إلى ذوي الشأن؟ وهم الورثة الشرعيون، ابنته الزهراء(عليها السلام) وزوجاته.
والدليل على أنّه(صلى الله عليه وآله) لم يتحدّث مع ورثته بهذا الشأن ولم يخبرهم أنّهم لا حضّ لهم في ميراثه، أنّ ابنته الزهراء(عليها السلام) هي أول مَنْ اعترض على أبي بكر منعها الإرث الشرعي، وأنكرت الحديث الذي ذكره واستدل به على منعها، ولو كانت وحدها فهي كافية في ردّه ورد الحديث، واعتراضها ونكرانها دليل أَنهَّا لم تسمعه من أبيها(صلى الله عليه وآله)، وكذلك كان موقف زوجات النبي(صلى الله عليه وآله) - غير عائشة - أنّهن لم يسمعن ذلك من النبي(صلى الله عليه وآله) مع أنهنّ أولات شأن بالحكم،، فَقَدْ نَقَلَ البُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ) أَردنَ أنْ يَبعثنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيْرَاثَهُنَّ فمنعتهنّ عائشة[2].
وإذا أراد شخص أن يقول: إنَّ فاطمة الزهراء(عليها السلام) كانت قد سمعت هذا الأمر من أبيها لكنّها طمعت بالإرث بعد رحيله فخالفته وخالفت حكمه، نقول إنّ هذا السلوك منها (حاشاها) تكذبه آية التطهير التي هي من مصاديقها بإجماع المسلمين، كذلك يكذب هذا السلوك التصريح الوارد عَنْ عَائِشَةَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدَاً قَطُّ أَصْدَقَ مِن فَاطِمَةَ غَيْرَ أَبِيْهَا»[3].
كذلك هذا الرأي يستلزم الطعن بأمهات المؤمنين اللواتي لهن مرتبة القداسة عند الفرق الإسلامية.
إذاً، العقلاء لا يحتملون أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) وهو سيد الحكماء يبلغ أحكاماً إلى غير ذوي الشأن ويترك أحبّاءه وهو أهل الشأن في جهل بالموضوع، ثمّ يرتكبون المخالفات الشرعية من جهلهم بالحكم.
وأيضاً لو صحّ ادّعاء أبي بكر لمضمون الحديث للزم منه أن تكون ابنة النبي(صلى الله عليه وآله) في النار - حاشاها-! لرواية رواها مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ: «مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلِيَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[4]، وهذا يعارض إجماع الفرق الأخرى بحسب رواياتهم أنّ فاطمة(عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة.
هذه جملة الشبهات التي تحيط بصحة صدور الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله).
أمّا دلالة ومعنى الحديث - لو فرضنا صحّته - وغضضنا النظر عن الشبهات التي ذكرت، فإنّه لَيْسَ المُرَادُ منه مَا فهمه أبو بكر، فإنّه فهم من الكلام أن جميع ما تركه النبي(صلى الله عليه وآله) من الإرث يتحوّل إلى صدقة لعامة المسلمين، بل يحتمل أن يكون المراد: أَنَّ مَعْنَى الحَدِيْثِ هُوَ: أَنَّ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةً لَا يُوَرَّثُ عَنَّا، وَلَيْسَ المُرَادُ أَنَّ أَمْوَالَ الأَنْبِيَاءِ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) لَا تُوَرَّثُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُوْدَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَهَبْ لِيْ مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوْبَ)، فَحَاشَا أَنْ يَتَكَلَّمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ المُنَزَّلِ[5]، وهذا الاحتمال ليس مختصاً بالشيعة، بل نقله السرخسي عن مشايخه كما ترى.
مجلة اليقين العدد (56)