من أوضح الأدلة على وجود الله وأيسرها فهماً بالنسبة للجميع دليل النظام والإبداع؛ لأنّه يعتمد على ملاحظة (صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[1]؛ إذ دليل النظام يقوم على أساس مشاهدة الآثار والآيات الإلهية في العالم، وملاحظة الانسجام والتناسب القائم بين مخلوقات هذا العالم، والاهتداء إلى وجود الله تعالى عن طريق مشاهدة هذا النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون. هذا الكون الذي أمامنا ونشاهده على هذا النظام البديع الذي لا يمكن أن يضطرب ولا يتصادم ولا يسقط بعضه بعضاً، بل هو في غاية ما يكون من النظام (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ)[2]، فهل يعقل أنّ هذا الكون العظيم بهذا النظام البديع يكون خالقاً لنفسه؟ وهناك عشرات الآيات القرآنية التي تهدي إلى وجود الله بدليل النظام فقد قال تعالى: (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِن ماء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[3].[4]
الآيات القرآنية المتعرّضة لبيان آثار الله تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات وجود الخالق، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على دليل النَّظم، فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة، أو ذرة من ذرات العالم، دليلاً على حكمة الله تعالى وبرهاناً على إرادته، فهي من باب أولى دليل على وجوده؛ إذ الوجود مقدّم على الصفات، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود. ويمكن توضيح دليل النظام الدال على وجود الله من خلال الخطوات الآتية:
أوّلاً: الصياغة المنطقية:
الصياغة المنطقية لهذا الدليل هي: هذا العالم منظَّم، وكلّ منظَّم يحتاج إلى منظِّم، إذاً: هذا العالم يحتاج إلى منظِّم.
ثانياً: مفهوم النظام:
مفهوم النظام من المفاهيم الواضحة في ذهن الإنسان، ومن خصائص النظام أنّه يتحقق بين أمور مختلفة سواء كانت أجزاء لمركب، أم أفراداً من ماهية واحدة، أم ماهيات مختلفة. فهناك ترابط وتناسق بين الأجزاء، أو توازن وانسجام بين الأفراد يؤدي إلى هدف وغاية مخصوصة، هي وجود الشيء على ما هو عليه من النظام الهادف.
ثالثًا: كيفيّة الاستدلال بالنظام:
يتألّف دليل النظام من مقدمتين: إحداهما حسيّة وهي: هذا العالم منظَّم، والأخرى عقلية وهي: كل منظَّم يحتاج إلى منظِّم، وإذا تمّت المقدمتان يثبت المطلوب، وهو: هذا العالم يحتاج إلى منظِّم، وإثبات المقدمة الأولى (هذا العالم منظَّم): لا شك في أنّ هناك نظام سائد في الظواهر الطبيعية التي يعرفها الإنسان إمّا بالمشاهدة الحسيّة الظاهرية وإمّا بفضل الأدوات والطرق العلميّة التجريبية. ومن هنا فإنّ للعلوم الطبيعية دور واسع في هذا الدليل. وفيما يلي إشارات سريعة على بعض النماذج النظامية: المنظومة الشمسية: إنّ من أهم ما يلفت النظر في المنظومة الشمسيّة هو المسافات الدقيقة التي تفصل الشمس عن الكواكب التابعة لها. والحركات المنتظمة لهذه الشمس والكواكب وما يتولد عن ذلك، أو يترتب عليه من الأحوال اللازمة كالفصول والليل والنهار وما شابه ذلك.
إثبات المقدمة الثانية: كل منظَّم يحتاج إلى منظِّم:
إنّ العقل بعدما لاحظ النظام وما يقوم عليه من دقة وروعة في التقدير والتوازن والانسجام، يحكم بالبداهة بأنّ أمراً هكذا شأنه يمتنع صدوره إلّا عن فاعل قادر عليم ذي إرادة وقصد، ويستحيل أن يتحقق ذلك صدفة وتبعاً لحركات فوضوية للمادة العمياء الصمّاء، فإنّ تصوّر مفهوم النظام، وأنّه ملازم للحساب الدقيق والعلم، يكفي في التصديق بأنّ النظام لا ينفك عن وجود منظِّم عالِم أوجده، وحُكم العقل بذلك من البديهيات[5].
مجلة ولاء الشباب العدد (63)