القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة

القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة

إنَّ القرآن الكريم هو آخر كتاب سماوي فيه نظام حياة متكامل للإنسان، ويرتبط بالكتب الإلهية السابقة أنها جميعها من قبل الله تعالى، وغنما كان سبق أحدهما الآخر لحكمة الباري عزّوجلّ؛ فكانت الكتب السابقة ممهدة للكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل ولا يشوبه القصور والزيغ، بل هو كتاب هدى ورحمة ونور ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾.[1]

الذي يتابع المفاهيم القرآنية فيما يتعلق بالأديان والكتب السابقة تتبين له تلك المفاهيم على ثلاثة أنحاء:

النحو الأول: التصديق، والقرآن الكريم وردت فيه آيات كثيرة تصدّق الكتب السماوية السابقة، ومن هذه الآيات، قوله تعالى: {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}.[2]

ومَعْنى ﴿مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ السّابِقَةِ لَهُ، وجُعِلَ السّابِقُ بَيْنَ يَدَيْهِ: لِأنَّهُ يَجِيءُ قَبْلَهُ. فَكَأنَّهُ يَمْشِي أمامَهُ.

ومن مظاهر التصديق:

1/ الإيمان بالكتب السابقة: قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).[3]

وقوله تعالى في التوراة: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ).[4]

وقوله تعالى (وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّـهِ).[5]

وقوله تعالى في الإنجيل بقول: (وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ، فِيهِ هُدًى وَنُورٌ).[6]

وقوله تعالى فيهما: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ، لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)[7]

فالقرآن الكريم يؤمن أن هذه الكتب السماوية كلّها نور وهداية

2/ إثبات الوحيَ، وإمكانه ووقوعه فعلًا؛ حيث أخبر في كثير من آياته أن اللهَ أرسل رسلًا كثيرين قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [8]

2/ تقرير بعض الشرائع السابقة، كالصلاة والصيام والزكاة، منه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [9]

وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [10]

3/ تقرير الفضائل التي دعت لها الكتب السابقة، منه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.[11]{

النحو الثاني: تفصيل الكتب السابقة: قال المفسرون: والتفصيل والتمييز والتقسيم نظائر، وضدّه التلبيس والتخليط، والمراد إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالإيضاح والشرح.[12]

ومما يظهر من آيات القرآن الكريم أن التفصيل يأتي بعد التصديق من حيث الترتيب لقوله تعالى: (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).[13]

وقوله تعالى: (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).[14]

وهذه الآيات تذكر دليلاً على أصالة هذا الوحي السماوي قال صاحب الأمثل: (أنَّ في هذا القرآن شرح كتب الأنبياء السابقين الأصيلة، وبيان أحكامهم الأساسية وعقائدهم الأصولية، ولهذا فلا شكَّ في كونه من الله تعالى، وبتعبير آخر: لا يوجد فيه أيّ تضاد وتناقض مع برامج وأهداف الأنبياء السابقين، بل يُلاحظ فيه تكامل تلك التعليمات والبرامج، وإِذا كان هذا القرآن مختلقاً فلا بدَّ أن يخالفها ويناقضها. ومن هنا نعلم أنَّه لا يوجد أيّ اختلاف بين الكتب السماوية في أصول المسائل، سواء كانت في العقائد الدينية، أو البرامج الاجتماعية، أو حفظ الحقوق، أو محاربة الجهل، أو الدعوة إلى الحقّ والعدالة، وكذلك إحياء القيم الأخلاقية وأمثال ذلك، ولا شكَّ في وجود الاختلاف في جزئيات الأحكام بين الأديان والمذاهب السماوية، إلَّا أنَّ الكلام عن أصولها الأساسية المتَّحدة والمشتركة في كلّ مكان).[15]

كما أنَّ التفصيل يقي من الاختلاف في العقائد والأحكام، كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).[16]

النحو الثالث: هيمنة القرآن على الكتب: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}[17] أي: إنّ القرآنَ أمينٌ وشهيدٌ ورقيبٌ على تلك الكتب، فما وافقه منها فهو حقّ وما خالفه منها فهو باطل.

كلمة (مهيمن) تطلق في الأصل على كلّ شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه[18]، ووصف القرآن بذلك القرآن الكريم لأنه يراقب ويحفظ الكتب السماوية السابقة ويصونها من التحريف.

مظاهر هيمنة القرآن الكريم على الكتب السابقة:

1/ إخبار القرآن الكريم بتحريف هذه الكتب، وما تناولتها أيدي أهل الكتاب من التبديل مما أفقد الثقة بكثير من المفاهيم، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)[19]، وتناولوا ما بقي منها بالتأويل الخاطئ.

2/ إخبار القرآن الكريم ببعض تفاصيل التحريف والتبديل، منها اعتقاد صلب نبيّ الله عيسى عليه السلام قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).[20]

3/ نسخ بعض أحكام الكتب السابقة، وتغيرها في القرآن الكريم، مثل كيفية الصلاة والصوم، وغيرها.  

كل هذا يدل على إشراف ورقابة القرآن الكريم على الكتب السابقة ومضامينها، لينتقل الإنسان إلى مفاهيم القرآن الكريم ومضامينه التي هي الأكمل في أصولها وفروعها لتحقيق أعلى درجات الكمال للحياة الإنسانية.  

 


[1] إبراهيم: آية1.

[2] آل عمران: الآية:1-4.

[3] البقرة: الآية 285.

[4] المائدة: الآية 44.

[5] المائدة: الآية 43.

[6] المائدة: الآية 46.

[7] المائدة: الآية 66.

[8] النساء: 163.

[9] البقرة: 183.

[10] البقرة: 83.

[11] البقرة: 83.

[12] تفسير الميزان: الطباطبائي: ج١٠: ص٣٢.

[13] يونس: ٣٧.

[14] يوسف: ١١١.

[15] تفسير الأمثل/ مكارم الشيرازي ج5: ص ٣٥٥ و٣٥٦.

[16] آل عمران: ١٩.

[17] المائدة: 48.

[18] مجمع البحرين/ الطريحي ٦: ٢٤١.

[19] البقرة: ٧٩.

[20] النساء: ١٥٧.