اسمه وكنيته ونسبه:
أبو عبد الله وقيل أبو محمد، سعيد بن جُبَير بن هشام الأسدي الكوفي، مولى بني والبة بن الحارث وهو من التابعين، وقد اشتهر بالفقه والزهد والعلم والتقوى وهو ممن كتب القرآن وكان عَلَماً كبيراً في التفسير، لذا سمّي بـ(جهبذ العلماء) بالكسر - أي: النقاد الخبير- لغزارة علمه.
ولادته ونشأته وصحبته:
ولد (رضوان الله عليه) في سنة 45هـ أو 46هـ، وقيل: سنة 38هـ ومن المحتمل أنّه ولد في الكوفة باعتباره كوفيا.
كان (رضوان الله عليه) مِن الكوفيين المخلصين بولائهم لأهل البيت (عليهم السلام)،
وعَدَّه في المناقب من أصحاب مولانا السجاد (عليه السلام)، وممن صلى خلفه من التابعين.
وهو عالم جليل فاق أهل زمانه في العلم حتَّى كان عبد الله بن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول لهم: (أليس فيكم سعيد بن جبير)[1].
عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن سعيد بن جبير كان يأتمُّ بعلي بن الحسين (عليه السلام) وكان علي (عليه السلام) يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر، وكان مستقيماً)[2].
من أقوال علمائنا فيه:
1- عن الفضل بن شاذان النيشابوري (ت: 260هـ) أنه قال: (لم يكن في زمن علي بن الحسين (عليه السلام) في أوّل أمره إلّا خمسة أنفس: سعيد بن جُبير، سعيد بن المسيّب، محمّد بن جبير بن مطعم، يحيى بن أُمّ الطويل، أبو خالد الكابلي)[3].
2- قال الشيخ ابن شهر آشوب (ت: 588هـ): (أبو محمد سعيد بن جبير مولى بني أسد نزيل مكة، وكان يسمّى جهبذ العلماء، ويقرأ القرآن في ركعتين، قيل: وما على الأرض أحد إلّا وهو محتاج إلى علمه)[4].
من أقوال علماء العامة فيه:
1- قال ابن حبّان (ت: 354هـ): (وكان فقيهاً عابداً ورعاً فاضلاً)[5].
2- قال ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ): (سعيد بن جبير الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت فقيه من الثالثة)[6].
روايته للحديث:
1- عن أسباط بن نصر، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جُبير، قال: (أتيت عبد الله بن عباس فقلت له: يا بن عم رسول الله، إني جئتك أسألك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) واختلاف الناس فيه.
فقال ابن عباس: (يا بن جُبير جئتني تسألني عن خير خلق الله من الأمة بعد محمد نبي الله (صلى الله عليه وآله)، جئتني تسألني عن رجل كانت له ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة، وهي ليلة القربة، يا بن جُبير جئتني تسألني عن وصي رسول الله (صلى الله عليه واله)، ووزيره وخليفته وصاحب حوضه ولوائه وشفاعته.
والذي نفس ابن عباس بيده، لو كانت بحار الدنيا مداداً، وأشجارها أقلاماً، وأهلها كتاباً، فكتبوا مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفضائله من يوم خَلَق الله عز وجل الدنيا إلى أن يفنيها ما بلغوا معشار ما آتاه الله تبارك وتعالى)[7].
والمراد بليلة القربة ليلة بدر حيث ذهب (عليه السلام) ليأتي بالماء، وسلم عليه ثلاثة آلاف من الملائكة فيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، فكان كل سلام من الملائكة منقبة.
2- عن سَعيد بن جُبِير عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مثلُ أهل بيتي مَثلُ سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلَّف عنها غرق)[8].
3- عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن عائشة، قالت: (كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقبل علي بن أبي طالب، فقال: هذا سيد العرب، فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ قال: (أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، فقلت: وما السيد؟ قال: من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي)[9].
مناظرته مع الحجاج:
جاء في الحديث عن عامر الشعبي أنه قال: بعث إليّ الحجاج ذات ليلة فخشيتُ فقمتُ فتوضأتُ وأوصيتُ ثم دخلتُ عليه فنظرتُ فإذا نطع منشور والسيف مسلول، فسلّمتُ عليه فردّ عليّ السلام فقال: لا تخفْ فقد أمنتك الليلة وغداً إلى الظهر وأجلسني عنده ثم أشار فأُتي برجل مقيد بالكبول والأغلال فوضعوه بين يديه فقال: إن هذا الشيخ يقول: إن الحسن والحسين كانا ابني رسول الله (صلى الله عليه واله) ليأتيني بحجة من القرآن وإلا لأضربن عنقه.
فقلت: يجب أن تحل قيده فإنه إذا احتج فإنه لا محالة يذهب وإن لم يحتج فإن السيف لا يقطع هذا الحديد، فحَلّوا قيوده وكبوله فنظرت فإذا هو سعيد بن جُبير فحزنتُ بذلك وقلت: كيف يجد حجة على ذلك من القرآن فقال له الحجاج: ائتني بحجة من القرآن على ما ادعيتَ وإلا أضرب عنقك فقال له:
انتظر فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك فقال: انتظر! فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ - إلى قوله - وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ثم سكت وقال للحجاج: اقرأ ما بعده فقرأ (وزكريا ويحيى وعيسى) فقال سعيد: كيف يلحق ههنا عيسى؟
قال: إنه كان من ذريته، قال: إن كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنته فنسب إليه معه بعده، (فالحسن والحسين) أولى أن يُنسبا إلى رسول الله صلى الله عليه واله مع قربهما منه فأمر له بعشرة آلاف دينار وأمر بأن يحملوها معه إلى داره وأذن له في الرجوع.
قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب عليّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلم منه معاني القرآن لأني كنت أظن أني أعرفها فإذا أنا لا أعرفها فأتيته فإذا هو في المسجد وتلك الدنانير بين يديه يفرقها عشرا عشرا ويتصدق بها ثم قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين (عليهما السلام)، لئن كنا أغممنا واحدا لقد أفرحنا ألفا وأرضينا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)[10].
دخوله على الحجّاج:
بعد أن ألقى خالد بن عبد الله القسري - والي مكّة - القبض عليه، أرسله إلى الحجّاج بن يوسف الثقفي، وعند دخوله عليه دارت بينهما محاورة، يذكر فيها أنه قال له: (أنت شقي بن كُسير؟ قال: أمي كانت أعرف باسمي سمتني سعيد بن جُبير، قال: ما تقول في أبي بكر وعمر أهما في الجنة أو في النار؟
قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها قال: فما تقول في الخلفاء! قال: لست عليهم بوكيل، قال: فأيّهم أحب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيت أن تَصدُقَني؟ قال: بلى لم أحبّ أن أكذبك)[11].
كيفية شهادته:
قال الحجّاج لسعيد (رضوان الله عليه) في نهاية محاورته له: ويلك يا سعيد. قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك، قال: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة، قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب، ضحك، فأُخبر الحجاج بذلك، فأمر بردِّه، فقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك! فأمر بالنطع فبسط، فقال: اقتلوه، فقال سعيد: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ المُشْرِكِينَ، ثم وجهوه وشدّوا به لغير القبلة، فقال (رضوان الله عليه): فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، ثم كبّوه على وجهه، فقال سعيد: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى.
فقال: اذبحوه، فقال سعيد: أما أنّي أشهد وأحاج أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، خذها منّي حتّى تلقى بي يوم القيامة، ثمّ دعا سعيد وقال: اللّهم لا تسلّطه على أحد بعدي، فذبح على النطع)[12].
وقال بن قتيبة الدينوري: فسقط رأسه إلى الأرض يتدحرج وهو يقول: لا إله إلّا الله، فلم يزل كذلك حتّى أمر الحجّاج مَن وضع رجله على فيه فسكت[13].
فاستُشهد (رضوان الله عليه) في الخامس والعشرين من ربيع الأول وقيل: في شهر شعبان سنة 95هـ، وهو ابن 49 سنة ودُفن في قضاء الحي من توابع محافظة واسط في العراق، وقبره معروف يُزار.
قيل: عاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ووقع الأكلة في بطنه، ... وكان ينادي بقية حياته: ما لي وسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي [14].
مرقده:
يقع مرقده الشريف في قضاء الحي على نهر الغراف على بعد (50) كم شرقي مدينة الكوت.. تبلغ مساحة الصحن الكلية حوالي خمسة دوانم وقد اصطفت الأواوين من جميع الجهات ويبلغ طول ضلع المرقد حوالي (50) متراً وتعلوه قبة ترتفع (20) متراً وهي مكسوّة بالبلاط القاشاني الملوّن، ويغلّف الزجاج والمرايا سطحها من الداخل مع إضافة الكتابات القرآنية بشكل شريط من القاشاني الأزرق ... وقد وضع على القبر شباك من البرونز الأصفر (3.2) متراً بارتفاع (2.5) متراً وللمرقد مئذنتان شامختان تحكيان منزلة هذا العبد الصالح الذي قوّض أركان دولة الحجاج وطغيانه برباطة جأشه وصلابة إيمانه واستخفافه بتهديدات الحجاج له بالموت.
مجلة بيوت المتقين العدد (6)
[1] تذكرة الحفاظ الذهبي: ج1، ص76.
[2] وسائل الشيعة: ج20، هامش ص206.
[3] الاحتجاج: ج2، هامش ص48.
[4] مناقب آل أبي طالب: ج3، ص311.
[5] الثقات ابن حّبان: ج4، ص275.
[6] تقريب التهذيب ابن حجر: ج1، ص349.
[7] الأمالي الشيخ الصدوق: ص652.
[8] المناقب لابن المغازلي: ص325.
[9] الأمالي الشيخ الصدوق: ص94.
[10] بحار الأنوار المجلسي: ج43، ص229.
[11] الاختصاص لشيخ المفيد: ص205.
[12] سير أعلام النبلاء الذهبي : ج4، ص331.
[13] المعارف ابن قتيبة الدينوري: ص445.
[14] الإكمال في أسماء الرجال الخطيب التبريزي: ص199.