صفات المنافقين

قال تعالى: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)[1].

هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين، وتذكر لهم ثلاث صفات:

1 - أنهم (يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ).

إن هؤلاء المنافقين كان لهم مع الله تعالى عهودٌ ومواثيقٌ، مثل عهد التوحيد، وعهد الربوبية، وعهد عدم إتباع الشيطان وهوى النفس، لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمردوا على أوامر الله، واتبعوا أهواءهم، وما أراده الشيطان لهم.

طبيعة هذا العهد: يثار سؤال حول العهد المبرم بين الله والإنسان، فالعهد التزامٌ مع الله تعالى على شيء، وقد يقول قائل: متى أبرمت مع الله عهداً من العهود المذكورة؟

الجواب على هذا السؤال: يتضح لو عرفنا أن الله سبحانه أودع في أعماق النفس الإنسانية شعورا خاصا وقوى خاصة يستطيع بها أن يهتدي إلى الطريق الصحيح، ويتجنب مزالق الشيطان وأهواء النفس، ويستجيب لداعي الله.

هذه القوى الفطرية يعبر عنها القرآن بالعهد الإلهي، وهو في الحقيقة (عهد تكويني) لا تشريعي أو قانوني، يقول تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)[2].

وواضح أن الآية تشير إلى فطرة التوحيد والعبودية والميل إلى الاتجاه نحو التكامل في النفس الإنسانية.

الدليل الآخر على هذا الاتجاه في فهم العهد الإلهي ما جاء في أول خطب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): حيث قال: (فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه)[3].

بتعبير آخر: كل موهبة يمنحها الله للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين الله والإنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أي يرى الحقائق، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوَّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهبة له في مسير منحرف.

الفاسقون: ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهية، أو جميعها.

2 - الصفة الأخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنهم: (يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ)....

أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن القطع المذكور في الآية يعني قطع الرحم، لكن مفهوم الآية - في نظرة أعمق - أعم من ذلك، وما قطع الرحم إلا أحد مصاديقها، لأن الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لكل ارتباط أمر الله به أن يوصل، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى الله، وارتباط بالله، ولا دليل على حصر الآية برابطة الرحم.

بعض المفسرين ذهبوا إلى أن الآية تشير إلى قطع الارتباط بالأنبياء والمؤمنين، وبعضهم فسّرها بالارتباط بأئمة أهل البيت (عليهم السلام)[4]، وواضح أن هذه التفاسير تبين جزءاً من المفهوم الكلي للآية.

3 - علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد: قال تعالى: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ).

ومن الواضح أن يكون هؤلاء مفسدين، لأنهم نسوا الله وعصوه، وخَلَتْ نفوسهم من كل عاطفة إنسانية حتى تجاه أرحامهم، هؤلاء لا يتحركون إلا على خط مصالحهم وأهدافهم الذاتية الدنيّة، ولا يهمهم على هذا الطريق أن يعيثوا في الأرض فساداً، ويرتكبوا كل لون من الانحراف.

وتؤكد الآية في الخاتمة أن (أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ).

وأي خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرامية لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟!

نعم، هؤلاء الفاسقون الذين خرجوا عن خط إطاعة الله ليس لهم مصير سوى الخسران[5].

أهمية صلة الرحم في الإسلام:

الآية المذكورة أعلاه، وإن تحدثت عن كل ارتباط أمر الله به أن يوصل، إلا أن الارتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.
لقد أعار الإسلام اهتماماً بالغاً بصلة الرحم وبالتودد إلى الأهل والأقارب، ونهى بشدة عن قطع الارتباط بالرحم.

قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)[6] ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يصور أهمية صلة الرحم بقوله: (صلة الرحم تُعمّر الديار وتزيد في الأعمار، وإن كان أهلها غير أخيار)[7].

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (صِلْ رحمك ولو بشربة من ماء، وأفضل ما يوصل به الرحم كف الأذى عنها)[8].

السبب في كل هذا التأكيد الإسلامي على الرحم هو أن عملية إصلاح المجتمع وتقوية بنيته وصيانة مسيرة تكامله وعظمته في الحقول المادية والمعنوية، تفرض البدء بتقوية اللبنات الأساسية التي يتكون منها البناء الاجتماعي، وعند استحكام اللبنات وتقويتها يتم إصلاح المجتمع تلقائيا.

الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية. والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية ارتباط أفراد الأسرة، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.

وواضح أن المجتمع يزداد قوة وعظمة كلما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالأسرة، وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف: (صلة الرحم تعمّر الديار)[9].

القطع بدل الوصل:

ذكرت الآية الكريمة: أن الفاسقين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وفي هذا الصدد يثار سؤال يقول: هل القطع ممكن قبل الوصل؟

والجواب: إن المقصود بالوصل استمرار الروابط التي أقرّها الله سبحانه بينه وبين عباده، أو بين عباده مع بعضهم بشكل طبيعي وفطري.

بعبارة أخرى، إن الله سبحانه أمر بالحفاظ على هذه الروابط الفطرية والطبيعية وبصيانتها، لكن المذنبين يقطعونها[10].

مجلة بيوت المتقين العدد (51)

 


[1] البقرة: 27.

[2] يس: 60 - 61.

[3] نهج البلاغة: ص43.

[4] نور الثقلين، ج 1، ص45.

[5] تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج1، ص141-143.

[6] سورة محمد: 22.

[7] الأمالي، الشيخ الطوسي: 481.

[8] بحار الأنوار، المجلسي: ج71، ص88.

[9] مستدرك الوسائل: ج15، ص241.

[10] الأمثل: ج1، ص143-145.