قال تعالى: (والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً * إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقاماً).
لا يزال كلامنا في صفات المؤمنين التي ذكرت في سورة الفرقان ووصلنا إلى الصفة الرابعة لهم وهي الخوف من العذاب الإلهي، ومنشأ خوفهم أنهم آمنوا بالجنة والنار إيمانهم بما شاهدوا وعاينوا، فخافوا من هذه، وطمعوا في تلك، قال الإمام علي (عليه السلام) في وصفهم: (فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون)[1].
ومع أنهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإن قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، فإن الخوف يوجّه الإنسان من داخله كشرطي قوي، فيُنجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصرا أمام الله[2].
يقول الرازي في تفسيره[3]: (واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقّبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله: (والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة)[4].
فالآية دلّت على أنهم مع حسن مخالقتهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحق، وَجِلُون من العذاب، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم، لعدم اعتدادهم بأعمالهم، ولا وثوقهم على استمرار أحوالهم[5].
وكلمة (غرام) في الأصل بمعنى المصيبة، والألم الشديد الذي لا يفارق الإنسان، ويطلق ((الغريم)) على الشخص الدائن، لأنه يلازم المدين دائما من أجل أخذ حقه.
ويطلق ((الغرام)) أيضاً على العشق والعلاقة المتوقدة التي تدفع الإنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر فيقال: فلان مغرم بفلان أي ملازم له وعاشق، وتطلق هذه الكلمة على ((جهنم)) لأن عذابها شديد ودائم لا يزول.
ولعل الفرق بين (مستقراً) و(مقاما) أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم ((مقام))، ومكان مؤقت للمؤمنين، أي ((مستقر))، وبهذا الترتيب يكون قد أشير إلى كلا الفريقين اللذين يَرِدان جهنم.
ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء، وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة.
ومن المحتمل أيضاً أن تكون (مستقراً) و(مقاما) كلاهما لمعنى واحد، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم، وهو صحيح في مقابل الجنة، حيث نقرأ عنها في آخر هذه الآيات نفسها خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما[6].
أسباب وآثار الخوف والرجاء:
الخوف حالة نفسانية موجبة لتألمها بسبب توقع مكروه سببه ممكن الوقوع أو توقع فوات أمر مرغوب فيه.
والرجاء حالة نفسانية موجبة لفرحها بسبب توقع حصول أمر مطلوب سببه متوقع أو مظنون أو معلوم.
وسبب الخوف من الله معرفته ومعرفة جلاله وعظمته وكبريائه وغنائه عن الخلق وغضبه وقهره وكمال قدرته على الخلق وعدم مبالاته بتعذيبهم وإهلاكهم ومعرفة عيوب نفسه وتقصيره في الطاعات والأخلاق والآداب مع التفكر في أمر الآخرة وشدائدها، وكلما زادت تلك المعارف زاد الخوف.
وثمرة الخوف تظهر في القلب والبدن والجوارح، إذ بالخوف يميل القلب إلى ترك الشهوات والندامة على الزلات، والعزم على الخيرات ويخضع ويراقب ويحاسب وينظر إلى عاقبة الأمور ويحترز من الرذائل كالكبر والحسد والبخل ويذبل البدن ويصفر اللون من الغم والسهر وتشتغل الجوارح بوظائفها ويحصل له بترك الشهوات العفة والزهد وبترك المحرمات التقوى، وبترك ما يعني الورع والصدق والإخلاص ودوام الذكر والفكر، ويترقى منها إلى مقام المحبة، ثم منه إلى مقام الرضا.
وسبب الرجاء معرفته تعالى ومعرفة سعة رحمته وفيضه ولطفه ورأفته وإحسانه على العباد، وإجراء نعمه عليهم ظاهره وباطنه، جليّة وخفيّة، ضرورية وغير ضرورية حين كونهم أجنة في بطون أمهاتهم بلا سبق استحقاق ولا تقدم استيهال والتفكر في غنائه عن عبادتهم وتعذيبهم مع عجزهم ومسكنتهم وفقرهم وحاجتهم إليه وذلهم بين يديه، ومن استقرت في قلبه هذه المعارف حصل له الرجاء بنيل الثواب والمغفرة والرحمة.
وثمرة الرجاء الإتيان بما يوجب الوصول إليها كما أن ثمرة الخوف من العقوبة ترك ما يوجب الورود عليها.
تعادل الخَوْفِ والرَّجَاءِ:
ينبغي للمؤمن أن يكون الخوف والرجاء كلاهما كاملين في نفسه ولا تنافي بينهما فإن ملاحظة سعة رحمة الله وغنائه وجوده ولطفه على عباده سبب الرجاء والنظر إلى شدة بأس الله وبطشه وما أوعد العاصين من عباده موجب للخوف مع أن أسباب الخوف ترجع إلى نقص العبد وتقصيره وسوء أعماله عن الوصول إلى مراتب القرب والوصال وانهماكه فيما يوجب الخسران والوبال وأسباب الرجاء تؤول إلى لطف الله ورحمته وعفوه وغفرانه ووفور إحسانه، وكل منهما في أعلى مدارج الكمال، ويدل على ذلك جملة من الروايات الشريفة منها:
ما يرويه لنا الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَوْ أَبِيه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: مَا كَانَ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ قَالَ: (كَانَ فِيهَا الأَعَاجِيبُ وكَانَ أَعْجَبَ مَا كَانَ فِيهَا أَنْ قَالَ لِابْنِه: خَفِ الله عَزَّ وجَلَّ خِيفَةً لَوْ جِئْتَه بِبِرِّ الثَّقَلَيْنِ لَعَذَّبَكَ وارْجُ الله رَجَاءً لَوْ جِئْتَه بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَرَحِمَكَ)، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): (كَانَ أَبِي يَقُولُ إِنَّه لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا [وَ] فِي قَلْبِه نُورَانِ نُورُ خِيفَةٍ ونُورُ رَجَاءٍ لَوْ وُزِنَ هَذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا ولَوْ وُزِنَ هَذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا)[7].
الخوف يستتبع العمل:
من الأمور الواضحة أن الخوف المجرد لا ينفع ما لم يكن مقترنا بالعمل المرضي عند الله تعالى وترك ما يسخطه فقد روي عن إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام):
(يَا إِسْحَاقُ خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه وإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاه فَإِنَّه يَرَاكَ فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّه لَا يَرَاكَ فَقَدْ كَفَرْتَ وإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّه يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَه بِالْمَعْصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَه مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ [إليك])[8].
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): (مَنْ عَرَفَ الله خَافَ الله ومَنْ خَافَ الله سَخَتْ نَفْسُه عَنِ الدُّنْيَا -أي تركها-)[9].
وعن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَه قَالَ: (قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) إِنَّ قَوْماً مِنْ مَوَالِيكَ يُلِمُّونَ بِالْمَعَاصِي -أي يفعلون المعاصي- ويَقُولُونَ نَرْجُو، فَقَالَ: كَذَبُوا لَيْسُوا لَنَا بِمَوَالٍ أُولَئِكَ قَوْمٌ تَرَجَّحَتْ بِهِمُ الأَمَانِيُّ -أي أمالتهم الأماني عن طريق الرشاد إلى سبيل الفساد حيث رجوا الرحمة مع انتفاء سببها- مَنْ رَجَا شَيْئاً عَمِلَ لَه ومَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْه)[10].
فإن سعة الرحمة حق ولكن لا بد لمن يرجوها من العمل الخالص المعد لحصولها وترك الوغول في المعاصي المفوت لهذا الاستعداد وهذا هو الرجاء الصادق الممدوح كمن ألقى البذر في الأرض وأتى بآداب الزراعة فإنه يرجو الحصول على الناتج، وأما من توغل في المعاصي فرجاء الرحمة غير ممدوح ولا معقول كرجاء من لم يزرع أن ينبت الله له زرعاً.
وعَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّه جَنَّتانِ)[11] قَالَ: (مَنْ عَلِمَ أَنَّ الله يَرَاه ويَسْمَعُ مَا يَقُولُ ويَعْلَمُ مَا يَعْمَلُه مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَيَحْجُزُه ذَلِكَ عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الأَعْمَالِ، فَذَلِكَ الَّذِي خَافَ مَقَامَ رَبِّه ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)[12].
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي سَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام): (يَقُولُ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً ولَا يَكُونُ خَائِفاً رَاجِياً حَتَّى يَكُونَ عَامِلاً لِمَا يَخَافُ ويَرْجُو)[13].
المؤمن بين مخافتين:
إن الخوف كما يكون بالنسبة إلى ما يأتي يكون بالنسبة إلى ما مضى أيضاً، وهذان الخوفان يوجبان تحقق كمال الإنسان، لأن الخوف مما مضى يوجب تصميم العزم بالتوبة والاستغفار والتدارك والاعتراف بالتقصير واشتغال القلب بذكر الرب، والخوف مما يأتي من احتمال المعصية والاغترار ونقصان الدرجة عن درجة الأبرار وانقلاب القلب والغفلة وترك الطاعات يوجب الاجتهاد في اكتساب الخيرات والمبادرة إلى تحصيل الكمالات والمحافظة لأوقات العبادات، والخالي عن الخوف قاسي القلب فاسد العقل (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[14].
روي عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: (إِنَّ مِمَّا حُفِظَ مِنْ خُطَبِ النَّبِيِّ ص أَنَّه قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا إِلَى مَعَالِمِكُمْ وإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ أَلَا إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْمَلُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا الله صَانِعٌ فِيه وبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا الله قَاضٍ فِيه فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفْسِه لِنَفْسِه ومِنْ دُنْيَاه لآِخِرَتِه وفِي الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ وفِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه مَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ مُسْتَعْتَبٍ ومَا بَعْدَهَا مِنْ دَارٍ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ)[15].
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (الْمُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ الله فِيه وعُمُرٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيه مِنَ الْمَهَالِكِ فَهُوَ لَا يُصْبِحُ إِلَّا خَائِفاً ولَا يُصْلِحُه إِلَّا الْخَوْفُ)[16].
مجلة بيوت المتقين العدد (17)
[1] الكاشف 5/483.
[2] الأمثل 11/307.
[3] تفسير الرازي : 24/108.
[4] سورة المؤمنون: 60.
[5] الأصفي: 2/875.
[6] الأمثل 11/307.
[7] الكافي ج2 ص67 ح1.
[8] الكافي ج2 ص67 ح2.
[9] الكافي ج2 ص68 ح4.
[10] الكافي ج2 ص69 ح6.
[11] الرحمن: 46.
[12] الكافي ج2 ص70 ح10.
[13] الكافي ج2 ص71 ح11.
[14] سورة الزمر: 22.
[15] الكافي ج2 ص70 ح9.
[16] الكافي ج2 ص71 ح12.