الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) أمل الشعوب

المقدمة:

لم يطرح الإسلام قضيّة الإمام المهديّ (عجل الله فرجه الشريف)  مجرّد فكرة خياليّة، تبشّر بقائد مبهم، سيظهر في المستقبل المجهول لإنقاذ البشريّة من الظلم والجور. بل طرحها كقضيّة عقائديّة، ذات معالم واضحة ثابتة في التصوّر الإسلاميّ، وحاضرة في ضمير الأُمّة ووجدانها، وحاضرة في حياتها السياسيّة والجهاديّة وهي تصارع واقعها الاجتماعي المنحرف، وتسعى لتغييره نحو الإسلام المحمدي الأصيل، وتواجه رموز الكفر والضلال في معاركها الجهاديّة مع أعدائها.

كلّ ذلك من أَجل تهيئة الأرضيّة الإيمانيّة والرساليّة الملائمة لاستقبال قائدها المرتقب؛ لأنّها على موعد مفاجئ لاستقباله والمشاركة في ثورته العالميّة.

والموعد لاستقبال الثائر العالميّ - حينما يكون غير محدّد التاريخ - يعني الاستعداد الدائم، والتهيّؤ المستمرّ لاستقباله والمشاركة في حركته الثوريّة العالميّة؛ لأنّنا نتوقّع ظهوره في كلّ يوم، وقد أخفى الله تبارك وتعالى وقت ظهور وليّه (عليه السلام) ، ليكون المؤمنون منتظرين له (عجل الله فرجه الشريف)  في جميع أوقاتهم، وقد روي في (الإقبال) عن الإمام الصادق (عليه السلام)  أنّه قال لحمّاد بن عثمان: «... وتوقَّعْ أمرَ صاحبِك ليلَكَ ونهارك، فإنّ الله كلَّ يومٍ هو في شأن، لا يَشغَلُه شأنٌ عن شأن..»[1].

آهات استغاثة: كلما أوجعت الإنسان سياط الظلم، وأرهقته عهود الجور والطغيان، وسلبت كرامته ظروف الفساد والانحراف.. شحّ بصره واشرأب عنقه تجاه الإمام المنقذ صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) ، وتوجه إليه من أعماق نفسه، وأطلق آهات الاستغاثة، ورفع أنات الشكوى وآهات الألم، يستعجل ظهور الإمام المنقذ.

وكلما شاهد المؤمن مظاهر الكفر والنفاق، ورأى تكاتف أنظمة الجور على سحق مبادئ الإسلام، وأزعجته معاملة الكبت والإرهاب التي يعيشها المؤمنون المخلصون في ظل سلطات الانحراف، كلما حدث ذلك التجأ المؤمن إلى اللَّه يدعوه ويطلب إليه الإسراع في خروج أمل الإنسانية وإمام الحق صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) .

فتارة تكون آهات الاستغاثة على شكل دعاء يتوجه به المؤمن إلى ربه الحكيم جلّ وعلا لينجز وعده بإظهار دين الحق والعدل وخروج إمام العصر والزمان:

 (اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا -صلواتك عليه وآله- وغيبة إمامنا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلِّ على محمد وآله محمد، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وضرّ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها برحمتك يا ارحم الراحمين)[2].

أيُّ مهمة تنتظر الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)  عند خروجه؟ إنها مهمة خطيرة لم يتحمل نقلها ولم يستوعبها تاريخ الإنسان على امتداده وسعته، ولم يتأت لها التحقيق في تاريخ البشرية. إنها إقامة دولة عالمية تخضع لها جميع الشعوب والمجتمعات حيث يصبح البشر كلهم رعية لقائد واحد، وفي ظل حكومة مركزية واحدة، ويسود العالم نظام واحد هو النظام الإسلامي. يقول الإمام الصادق (عليه السلام)  وهو يتحدث عن عالمية دولة الإمام المنتظر: «إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه...»[3]. وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : «المهدي وأصحابه يُمَلِّكهم اللَّه مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت اللَّه عزّ وجلّ به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات السفهة الحق حتى لا يرى أثر من الظلم»[4]. وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «.. الثاني عشر منا، يسهِّل اللَّه تعالى له كل عسر، ويذلل له كل صعب، ويظهر له كنوز الأرض، ويقرّب عليه كل بعيد..»[5].

غيبتك نفت رقادي: عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر، وأبو بصير، وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)  فرأيناه جالساً على التراب وعليه مِسح خيبري مطوق بلا جيب، مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكبد الحرى، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيير في عارضيه،  وأبلى الدموع محجريه وهو يقول: «سيدي غيبتك نفت رقادي وضيقت علي مهادي وابتزت مني راحة فؤادي سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد وفقد الواحد بعد الواحد يفنى الجمع والعدد فما أحس بدمعة ترقى من عيني، وأنين يفتر من صدري، عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا إلا مثل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها، وبواقي أشدها وأنكرها، ونوائب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك».

قال سدير: فاستطارت عقولنا ولهاً، وتصدعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل!! والحادث الغائل ! وظننا أنه سمت لمكروهة قارعة، أو حلت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك من أية حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك؟ وأية حالة حتمت عليك هذا المأتم؟! قال: فزفر الصادق (عليه السلام)  زفرة انتفخ منها جوفه، واشتد عنها خوفه.

وقال (عليه السلام) : «ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خص الله به محمداً والأئمة من بعده (عليه السلام) ، وتأملت منه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم، وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال الله تقدس ذكره: ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ...﴾ يعني الولاية، فأخذتني الرقة، واستولت عليّ الأحزان...»)[6].

ويكفي هذا الخبر الشريف في هذا المقام فان تحيّر وتفرّق وابتلاء الشيعة في أيام الغيبة وتولّد الشكوك والشبهات في قلوبهم كان سبباً لبكاء الإمام الصادق (عليه السلام)  بسنين كثيرة قبل وقوعه، وكان سبباً لسلب النوم من عينيه المباركتين . فابتلاء المؤمن بذلك حادث عظيم، وغرق في الدوامة المظلمة الكثيرة والشديدة الموج، فينبغي عليه أن يكون دائماً ببكاء وألم وأنين، واضطراب وحزن وهمّ، وتضرّع إلى الباري جلّ وعلا.

التمهيد لظهور الإمام (عجل الله فرجه الشريف) : المهمة الأساسية للإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)  حين خروجه هي: نشر الحق والعدل، وبناء دولة إسلامية عالمية لجميع البشر.

فعلى المؤمن أن يقوم بدور التمهيد لإنجاز هذه المهمة الخطيرة، وذلك ببث الوعي الإسلامي الصحيح على أوسع نطاق في العالم، وبتكوين نواة المجتمع الإسلامي الذي يهدف الإمام (عجل الله فرجه الشريف)  إلى تحقيقه.

فإذا ما بدأ المؤمنون مسيرة العمل والنضال من أجل تطبيق رسالة الله تعالى وترجمتها إلى واقع اجتماعي حيّ، فإن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)  حيث خروجه سيكمل تلك المسيرة، ويتوجه بانتصاراته العالمية الحاسمة.

عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «وكأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطونه ما سألوا، فلا يقبلون حتى يقيموا، ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم (يعني الإمام المنتظر) قتلاهم شهداء، أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر»[7].

وتعتبر الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام)  التزام المؤمن بإيمانه ومواجهته للتحديات المناوئة في عصر الغيبة جهاداً ونضالاً لا يقل عن جهاد صحابة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، فعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) : «من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا، أعطاه اللَّه عزّ وجلّ أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأحد»[8].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «طوبى لمن تمسك بأمرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية...»[9].

الالتزام الفعلي للشريعة: الفرد الذي يطمح لحاكمية الرسالة التي يؤمن بها على مستوى العالم لابدّ أن يعيش هذا الطموح في مستوى ذاته كخطوة أولى، وإلاّ فلا معنى للتبشير بمجتمع عادل، ونحن لم نحقّق درجة من العدالة بمعناها الأخلاقي في نفوسنا، والروايات التي جاءت في مقام الثناء والإطراء على أبناء زمن غيبته (عجل الله فرجه الشريف)  ومقام التنويه بمكانتهم إنّما وردت لتنبّه إلى ما يعيشه هؤلاء من الالتزام الفعلي والسلوكي بتعاليم الإسلام رغم كلّ الظروف والملابسات والتعقيدات التي تحيط بزمانهم، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا: يا رسول الله نحن كنّا معك ببدر وأحد وحنين ونزل فينا القرآن فقال: إنّكم لَوْ تحملوا بما حملوا لم تصبروا صبرهم»[10].

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) : «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه؛ فجدوا وانتظروا هنيئاً لكم أيّها العصابة المرحومة»[11].

 الارتباط بالقيادة الشرعية الزمنية: إنّ التمسّك بالإسلام والتقيّد بأحكامه من أهمّ الأدوار التاريخية التي يؤدّيها الفرد على طريق التمهيد والتوطئة للمهدي والتعجيل بالظهور ولكن يبقى سؤال محيّر: ما هو الإطار القيادي لهذه الحركة؟ من هو القائد الذي يرتبط به الفرد زمن الغيبة؟ ما هي المرجعية الفكرية والاجتماعية التي ينتمي لها...؟

قد رسَم الإمام الحجّة(عجل الله فرجه الشريف)  للمؤمنين الخطّ العام لهذه القيادة النائبة التي لابدّ للفرد أن يعتصم بها في غيبته: جاء في التوقيع المنسوب للحجّة (عجل الله فرجه الشريف) : «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»[12]، وعنه أيضاً: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»[13].

فالمهدي (عجل الله فرجه الشريف)  ومن قبله سائر الأئمة (عليهم السلام)  لمّا كانوا عارفين بالغيبة والفراغ الذي ستحدثه عيّنوا لشيعتهم خطّاً قيادياً عامّاً، ومسؤولية المؤمنين الالتزام بهذه القيادة، والنصيحة لها، والانضواء تحت لوائها، وإلا كيف ندّعي انتظار الإمام ونزعم التمهيد له، ونحن نخالف أوامره، ونخرج عن الخطّ القيادي العام الذي نصّبه للأمة. ولهذا الارتباط بالقيادة الشرعية في الأُمّة - مع كونه مسؤولية شرعية - منافع كثيرة على درب التعجيل، أهمّها: انحسار دور القيادات الدخيلة والمفروضة على الأُمّة، والتفاف الجماهير حول رموزها ورموز مجدها وحضارتها ورسالتها، وتعتاد الجماهير شيئاً فشيئاً على الارتباط بقيادة مركزية في المستقبل حينما يتكامل جهاز المرجعية لتستقرّ على صيغة تُوحّد الأُمّة لا تفرّقها، وتتحوّل معها هذه الجموع من غبار بشري لا قيمة له إلى كتل متراصّة تتحرّك تحت راية واحدة.

اللّهُمَ إنا في انتظار وليكَ الحجة المنتظرْ(عجل الله فرجه الشريف)  فاجعلنا ممن يلوذون بحماهُ ومن الذائدينَ عنهُ، والمستشهَدينَ بينَ يديه. اللهُمَ عجل بدولتهِ وأنصر الإسلام بهِ، فقد تاقت النفوسُ إليهِ وجزعَ الصبرُ وِعاءَهُ، فانصرنا بهِ على القومِ الظالمين إنكَ أرحمُ الراحمين يا رب العالمين.

 


[1] السيد ابن طاووس:ج1،ص368.

[2] مصباح المتهجد للطوسي:ص582.

[3] بحار الأنوار للمجلسي: ج65، ص231.

[4] بحار الأنوار: ج24، ص166.

[5] كفاية الأثر الخزاز القمي: ص270.

[6] الغَيبة للطوسي:ص169.

[7] الغَيبة للنعماني:ص282.

[8] كمال الدين للصدوق: ص332.

[9] كمال الدين:ص358.

[10] بحار الأنوار للمجلسي: ج٥٢، ص١٣٠.

[11] الغَيبة للنعماني: ص١٣٤.

[12] بحار الأنوار: ج٥٣، ص١٨١.

[13] بحار الأنوار: ج٢، ص٨٨.