لعل أحد أسرار بعث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مجتمع كان يعيش الفقر الأخلاقي، أن تُظهر عظمة هذه الرسالة وتُميز هذا الرسول، فلو جاء النبي (صلى الله عليه وآله) في مُجتَمَع يتصف بالرقي الخلقي والحضاري، لسهل القول بأنه انطلق من تجربة مُجتمَعه واستفاد من تاريخ محيطه، ولكن أن يأتي هذا الرسول (صلى الله عليه وآله) في مُجتَمَع يعيش الجهل والانحلال، ثم يعرض على البشرية هذه الرسالة العظيمة الرائعة في مختلف المجالات، حينها لا يبقى لأي عاقل مجال للشك في أن هذه الرسالة ليست إنتاجاً بشرياً؛ لأن المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه النبي (صلى الله عليه وآله) لا يسمح بأي حال من الأحوال لشخص يعيش تلك الظروف أن يقدّم مثل الرسالة وهذه الشريعة، كل ذلك يدل على صدق رسالته ونبوته، ولذلك يمّن الله تعالى على المؤمنين، بقوله: (لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)[1]، فلم يأتهم شخص يعيش تقدماً وتطوراً أكثر من الوضع الذي كانوا يعيشون فيه، وإنما جاء من نفس ذلك المُجَتمَع، وقد بُعث هذا الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) في مُجتَمَع يعتقد بالخرافة ويعبد الأصنام ويسجد للأوثان، فقد كان في كل بيت من بيوتات مكة صنم يعبده أهل ذلك البيت - ماعدا بيت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي انحدر من خير نسل وهو نسل إسماعيل (عليه السلام)، وتميّز أهله بالتوحيد وتمتعوا بالخلق الرفيع والصفات العالية، وكانوا سادة قومهم ورؤسائهم، فهم أوصياء إبراهيم (عليه السلام)، وحملة نور الرسالة لصلب عبد الله والد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) - بل كان في جوف الكعبة نفسها وعلى سطحها أكثر من (360) صنماً تُعبد من دون الله، وقد كان العربي آنذاك يستبق سفره بالتمسح بالأصنام تبركاً والتماساً للخير، كما يفعل ذات الأمر إذا عاد من سفره، ناهيك عن شيوع القتل والسلب والنهب، ووأد البنات، وأصحاب الرايات، وكانت العصبية والنزاعات وحالات الاحتراب تسود في ذلك المجتمع ولأتفه الأسباب، كما جرى في حرب البسوس حيث أصاب شخص ضرع ناقة بسهم فقامت إثر ذلك حرب استمرت لأكثر من أربعين سنة قتل فيها الألوف، وعلى ذات المنوال جرت حرب داحس والغبراء بسبب خلاف على سباق بين فرسين، واستمرت هذه الحرب عشرات السنين هلك خلالها الحرث والنسل.
جاء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسط مُجتَمَع كانت حياته حياة احتراب وعصبية وجهل وتخلف في مختلف المجالات وبحسب وصف الآية الكريمة (..وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ..)[2]، لقد كان مُجتمَعاً معرضاً للانتهاء والإبادة ومهدداً بالعيش خارج التأريخ والحياة، فخلق منه هذا النبي العظيم (صلى الله عليه وآله) مُجتَمعاً جديداً وأمّة متقدمة استطاعت أن تقود العالم خلال فترة قياسية من الزمن، إن في ذلك دلالة كبيرة على عظمة هذا الدين وهذا الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله).