التوبة بأبسط عبارة هي الندم على المعصية، والعزم على ترك المعاودة، وهو مبدأ قرآني تتمثل فيه أعلى مراتب الرحمة الإلهية، وهي إحدى أبواب المغفرة ومحو آثار الذنوب ورفع العقوبات المترتبة عليها، لكن ذلك يكون بشروط مذكورة في كتب الأخلاق.
كما أنّ هذا العفو عام بشروطه مشروع لكلّ إنسان ما دام على قيد الحياة. وآيات كريمة كثيرة تدل على استمرار فتح باب توبة للمذنبين، منها قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)[1]، وقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[2]، وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)[3].
وقد توهّم بعضٌ في بعض الأخبار أنّ باب التوبة ينتهي وينغلق في عصر الظهور المقدّس وحضور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ومنشأ التوهّم ما ورد عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: لو قد خرج قائم آل محمد (عليهم السلام) لينصره الله بالملائكة المسوّمين والمردفين والمنزلين والكروبين... لا يستتيب أحداً ولا تأخذه في الله لومة لائم...»[4].
فمن قوله (لا يستتيب أحداً) ظنّ بعضٌ أنّ باب التوبة ينغلق زمن الظهور.
ولعلّ الوهم نشأ من عبارة (لا يستتيب أحداً) فقد وردت في رواية أُخرى (لا يستنيب أحداً) أي: إنّه يباشر الأُمور المهمّة والمصيرية بنفسه، وربما حصل تصحيف في الكلمة فدونها بعضهم (يستتيب)، وقد ذكر هذا صاحب بحار الأنوار فقد أورد تلك الرواية وجاء فيها: ... (ولا يستنيب أحداً ولا تأخذه في الله لومة لائم)، ثمّ قال: (بيان: (لا يستنيب أحداً) أي يتولى الأُمور العظام بنفسه...)[5].
نعم هناك مسألة أُخرى أيضاً ربما ينشأ منها وهم انغلاق باب التوبة، وهي أنّ التوبة إذا لم تكن صادقة ولم تنبُع منَ القلبِ ولي سفيها ندم وعزم على عدم المعاودة على الفعل السيء فإنّها تكون من المخادعة والنفاق، ولا يحتمل قبولها، فتوبةُ المُجرمِ الذي لم يعلن توبته رغبة واختياراً وإنما خوفاً من موقف أو طمعاً في غنيمة تكون بعيدة القبول، وهذا أمر واضح، وإذا أردنا تطبيقه على عصر الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) فإنّه(عليه السلام) بما آتاه الله تعالى من الولاية التكوينية والتشريعية، فهو قادرٌ على معرفةِ إن كانَت التّوبةُ خالصةً أم لا، ويترتب على ذلك قبولها أو عدم قبولها.
وثمّة أمر آخر يخصّ هذه المسألة، وهو أنَّ التّوبةَ التي تدفع العقوبة والآثار تلك التي تكون عن الذنوب التي يرتكبها العبد في حق نفسه أو في حق الله تعالى، فإنّه يمكن سقوطها ومحوها بالتوبة، أمّا الذّنوبُ المُتعلّقةُ بحقوقِ الآخرين أفراداً وجماعات فهي حقوق غير قابلة للسقوط بدون إسقاطها من أصحابها، كمَن ثبت في حقه قصاصٌ أو حدٌّ آخر فإنّ توبته لا تدفع تلك الحدود، وعليه يُقيم الإمامُ المهديّ(عليه السلام) على التائبين الحدود حتّى لو أظهرُوا التّوبةَ، وقَد جاءت الإشارة في القرآن الكريم إلى هذه المسألة، قال تعالى: (يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفساً إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ ...)[6]، جاء عن الصادق(عليه السلام): «إذا طلعَت الشّمسُ مِن مغربِها فكلُّ مَن آمنَ في ذلكَ اليومِ لم ينفعهُ إيمانُه»[7] والتعبير بطلوعَ الشّمسِ منَ المغربِ كناية عن ظهورِ الإمامِ المهديّ(عليه السلام)، أي: إذا ظهرَ المهديُّ (لَا يَنفَعُ نَفساً إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ).
الخلاصة: مما تقدّم يمكنُ لنا أن نفهمَ الرّواياتِ التي أشارَت إلى عدمِ قبولِ الإمامِ المهديّ (عليه السلام) التّوبةَ منَ بعضِ الناس، سببه أنَّ هؤلاء عليهم حقوقُ العبادِ وفي ذمّتهم مظالمُ الناس، ولابدَّ منَ الاقتصاص لها في الدّنيا، أو أنّهم استحكم الكُفرُ في قلوبِهم فلم يُظهروا التّوبةَ إلّا خوفاً منَ القتلِ، فمنَ الطبيعيّ ألّا تُقبلَ توبتُهم؛ لأنّها ليسَت توبةً في الحقيقةِ والواقعِ، بل خداع ونفاق كما تقدّم.
المصدر: مجلة اليقين العدد (69)