- عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: (شَاءَ وأَرَادَ ولَمْ يُحِبَّ ولَمْ يَرْضَ، شَاءَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِه، وأَرَادَ مِثْلَ ذَلِكَ ولَمْ يُحِبَّ أَنْ يُقَالَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، ولَمْ يَرْضَ لِعِبَادِه الْكُفْرَ)[1].
2- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ الله: ( يَا ابْنَ آدَمَ بِمَشِيئَتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي، وبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلَى مَعْصِيَتِي، جَعَلْتُكَ سَمِيعاً بَصِيراً قَوِيّاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله، ومَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وذَاكَ أَنِّي أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ وأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، وذَاكَ أَنَّنِي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ)[2].
3- عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: (لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا مَا شَاءَ الله وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى، قُلْتُ: مَا مَعْنَى شَاءَ؟ قَالَ: ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ، قُلْتُ: مَا مَعْنَى قَدَّرَ؟ قَالَ: تَقْدِيرُ الشَّيْءِ مِنْ طُولِه وعَرْضِه، قُلْتُ: مَا مَعْنَى قَضَى؟ قَالَ: إِذَا قَضَى أَمْضَاه فَذَلِكَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَه)[3].
الشرح:
عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: (لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا مَا شَاءَ الله وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى)، قُلْتُ: (مَا مَعْنَى شَاءَ؟ قَالَ: ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ)، لما كان قوله (عليه السلام): (لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا مَا شَاءَ الله)، دالاًّ بحسب الظاهر على أن المعاصي تقع بمشيئته تعالى وإرادته وهذا لا يستقيم على المذهب الحق سأل السائل عن معنى المشية حتى يظهر له وجه الاستقامة، فأجاب (عليه السلام) بأن المشية ابتداء الفعل وأوله، ولعل المراد بابتداء الفعل أن مشيته تعالى أول فعل من الأفعال وكل فعل غيرها يتوقف عليها ويصدر بعدها كما يدل عليه ما مرّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية) يعني خلق أفعاله بها وكذا خلق أفعال عباده بها لكن بتوسط مشية جازمة صادرة منهم، فإذن سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيته تعالى، أو المراد به أن مشيئته تعالى أول المشيئات وكل مشيئة سواها تابعة لها، كما أنه تعالى هو الفاعل الأول وكل فاعل بعده فاعل ثانوي يسند إليه فعله بلا واسطة وإلى الفاعل الأول بواسطة، وهذا معنى مشيئته تعالى لأفعال العباد ومعنى إسناد أفعالهم إلى مشيئته، أو المراد به إيجاد الآلة مثل الحياة والقوة والقدرة والهمة والشوق فكأنه شاء أفعالهم على سبيل التجوز والله أعلم.
قُلْتُ: (مَا مَعْنَى قَدَّرَ قَالَ: تَقْدِيرُ الشَّيْءِ مِنْ طُولِه وعَرْضِه)، المراد به تعيين ذات الشيء وصفاته وحدوده وكيفياته وسائر ما يدخل في خصوصياته، وقيل: التقدير هو الإعلام والتبيين، وقيل: هو الكتابة في اللوح المحفوظ، وقيل: غير ذلك، ولا شبهة في صحة تعلق تقديره تعالى بهذه المعاني بجميع الأشياء.
قُلْتُ: (مَا مَعْنَى قَضَى قَالَ: إِذَا قَضَى أَمْضَاه فَذَلِكَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَه)، لأن إمكان رد الشيء وتركه والقدرة عليه إنما هو قبل القضاء والإيجاد وأما بعدهما فقد خرجا عن تحت القدرة والفاعل كالمجبور لا يقدر على إيجاده وعدم إيجاده، لأن إيجاد الموجود وعدم إيجاده محال وتحقق هذا المعنى لقضائه في أفعاله ظاهر، وكذا لقضائه في أفعال العباد إذ قضاؤه فيها أعني الحكم عليها بالثواب والعقاب لا مردّ له.
4- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: (أَمَرَ الله ولَمْ يَشَأْ، وشَاءَ ولَمْ يَأْمُرْ، أَمَرَ إِبْلِيسَ أَنْ يَسْجُدَ لآِدَمَ، وشَاءَ أَنْ لَا يَسْجُدَ، ولَوْ شَاءَ لَسَجَدَ، ونَهَى آدَمَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وشَاءَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ولَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَأْكُلْ)[4].
5- عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ للهِ إِرَادَتَيْنِ ومَشِيئَتَيْنِ إِرَادَةَ حَتْمٍ وإِرَادَةَ عَزْمٍ، يَنْهَى وهُوَ يَشَاءُ ويَأْمُرُ وهُوَ لَا يَشَاءُ أوَمَا رَأَيْتَ أَنَّه نَهَى آدَمَ وزَوْجَتَه أَنْ يَأْكُلَا مِنَ الشَّجَرَةِ وشَاءَ ذَلِكَ ولَوْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَأْكُلَا لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمَا مَشِيئَةَ الله تَعَالَى، وأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ إِسْحَاقَ ولَمْ يَشَأْ أَنْ يَذْبَحَه ولَوْ شَاءَ لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَةُ إِبْرَاهِيمَ مَشِيئَةَ الله تَعَالَى)[5].
الشرح:
عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ للهِ إِرَادَتَيْنِ ومَشِيئَتَيْنِ إِرَادَةَ حَتْمٍ)، أي إرادة حتمية ومشيئة قطعية لا يجوز تخلف المراد عنها كما هو شأن إرادته ومشيئته بالنسبة إلى أفعاله.
ثم قال (عليه السلام): (وإِرَادَةَ عَزْمٍ)، أي إرادة عزمية غير حتمية ومشية تخييرية غير قطعية يجوز تخلف المراد عنها، كما هو شأن إرادته ومشيته بالنسبة إلى أفعال العباد.
ثم قال (عليه السلام): (يَنْهَى وهُوَ يَشَاءُ)، أي ينهى العبد بإرادته التشريعية عن شيء، لأنه يكره ذلك الشيء أن يصدر منه، ولكن لعلمه أن العبد سوف لا ينتهي عن هذا الشيء ولا ينزجر عنه بسبب نهي الله له عن الإتيان به فهو يشاء ذلك الشيء أن يصدر عنه، بمعنى المشيئة التكوينية، أي يُنفذه ويُحققه في الخارج لرغبة العبد بوجوده في الخارج على خلاف مشيئة الله التشريعية.
ثم قال (عليه السلام): (ويَأْمُرُ وهُوَ لَا يَشَاءُ)، أي يأمر العبد بشيء ويريد صدوره منه وهو لا يريد ذلك الشيء باعتبار أنه لم يجبره على قبول المأمور به، والحاصل أنه تعالى لما كان قادراً على منع العبد جبراً وقسراً من الفعل في صورة النهي ومن الترك في صورة الأمر ولم يمنعه كذلك لأنه مناف للتكليف كأنه شاء فعل المنهي عنه وترك المأمور به.
وبتعبير آخر: أن هنا مشيئتين مشيئة تشريعية ومشيئة تكوينية، والثانية غير تابعة للأولى بل تابعة لرغبة العبد نفسه، لأن الله لا يجبر أحدا على فعل وإن أراده، ليتحقق الثواب والعقاب، فهو تعالى وإن أراد الخير من العبد أن يفعله، وأراد اجتناب العبد عن الشر، ولكن العبد لو لم يرد ذلك وأراد على خلاف إرادة الله تعالى، مع أن الله تعالى يعلم بذلك، فهو تعالى سوف يريد ما يريده العبد، أي: يوجد ما يريده العبد.
ثم قال (عليه السلام): (أوَمَا رَأَيْتَ أَنَّه نَهَى آدَمَ وزَوْجَتَه أَنْ يَأْكُلَا مِنَ الشَّجَرَةِ وشَاءَ ذَلِكَ)، أي أكلهما منها باعتبار أنه لم يجبرهما على تركه، (ولَوْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَأْكُلَا)، بجبره لهما على المنهي عنه ومشيته لتركه حتماً (لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمَا)، للأكل (مَشِيئَةَ الله تَعَالَى)، لتركه حتماً، لأن المغلوب المجبور على ترك شيء لا يمكنه الإتيان بفعله فضلاً عن أن يكون مشيته غالبة على مشية الجابر القاهر.
(وأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ إِسْحَاقَ ولَمْ يَشَأْ أَنْ يَذْبَحَه)، مشية حتم يمتنع معها الذبح والإعراض عنه (ولَوْ شَاءَ لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَةُ إِبْرَاهِيمَ مَشِيئَةَ الله تَعَالَى)، ترك الذبح والإعراض عنه بعد الاشتغال به (مَشِيئَةَ الله تَعَالَى)، ذبحه حتماً لأنه (عليه السلام) حينئذ كان مجبوراً بالذبح غير قادر على تركه، والله أعلم.
ومن هذا يتضح معنى الحديث الرابع: أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، فإن الأمر هو الإرادة التشريعية وهي موافقة مع المصلحة دائما، أما المشيئة فهي الإرادة التكوينية وهي ليست بالضرورة تابعة للمصلحة التي يعلمها الله تعالى، بل تابعة لرغبة العبد التي يعلمها الله تعالى أيضاً.
مجلة بيوت المتقين العدد (25)