المقدمة

إن مما أجمع عليه العقلاء والمثقفون ـ وقلما يجتمعون على شيء ـ أن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) هو أعظم شخصية عرفها التأريخ، سواء في ذلك المتدينون وغيرهم، لما تميز به من صفات قلَّ وجودها في شخص على مرّ التأريخ، كيف لا وهو أشرف الموجودات في عالم الوجود، ومظهر صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، ومَن ادخره الله تعالى إلى آخر الزمان لينشر على يديه شريعته الخالدة، فيختم بذلك قافلة أنبيائه ورسله، ففي الحديث القدسي عن رب العزة: (كنت كنزا مخفيا فأردت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف)[1]، فمن هذا الحديث القدسي يتبين أن الله تعالى إنما خلق الخلق ـ كل الخلق وليس البشر وحدهم ـ لكي يُعرف، ثم خلق الجن والإنس بالخصوص لكي يُعبد، لقوله تعالى في كتابه العزيز: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[2].

إذن خلق الله الكون وما فيه من السماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن، وخلق الجن والإنس لكي يُعرف فيعبد، ولكن كيف يُعرف وكيف يُعبد؟ فهنا لابد من الإجابة على سؤالين، هما:

كيف نعرف الإله المعبود؟

كيف نعرف ماذا يريد؟ وكيف يُعبد؟

ونعرف جواب السؤال الأول من دعاء شهر رجب المروي عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف): (أسألك بما نطق فيهم ـ أي: ولاة الأمر ـ من مشيئتك فجعلتهم ..... آياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، ..... فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا الله) [3]، فولاة الأمر هم محمد وآل محمد لقوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[4]، وآل النبي فرع منه(صلى الله عليه وآله)ولهم حكمه، فالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)- بحسب هذا الدعاء - هو أعظم آية من آيات الله، وصفتها:

1- أنها لا تعطيل لها.

2- أنها في كل مكان.

3- معرفة الله لا تكون إلا عن طريقها.

4- تفرع باقي الآيات عنها.

5- ظهور وحدانيته تعالى عن طريقها.

فهذه خمس صفات  للنبي (صلى الله عليه وآله) - وتجري في أهل بيته (عليهم السلام) أيضا كما تقدم - تظهر من هذا الدعاء الشريف، إذن لو أردنا أن نعرف كيفية الخلق وفق هذا المقطع من الدعاء، ومَن خلقه الله أولا نستطيع أن نعرف بوضوح-كما هو معروف من خلال روايات شريفة كثيرة روتها العامة والخاصة - أن أول ما خلق الله تعالى هو نور النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ثم تفرع منه نور علي(عليه السلام) وأبنائهما(عليهم السلام) فكانوا المصداق الأساس والرئيس لقوله تعالى في الحديث القدسي المتقدم: (فخلقت الخلق لكي أعرف)، ثم بعد ذلك خلق باقي الخلق بهم ولأجلهم، كما يظهر من الدعاء، فكانوا شهودا على جميع الخلائق وفي جميع النشآت، ولا ينافي ذلك أنهم في هذه النشأة كانوا متأخرين في الزمان إلى آخر الأزمنة بعد جميع الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم، إذ أن ذلك كان لحكمة منه تعالى اقتضت أن يمهد لهم ويهيأ العقول لتقبلهم، وقد وردت روايات كثيرة تفيد: أن عليا(عليه السلام) كان مع جميع الأنبياء الماضين بشكل خفي، ولا نريد استعراضها والخوض في تفاصيلها، إذ أنها تحتاج إلى بسط من القول لا تسعه هذه المقدمة.

وخلاصة ما يتحصل مما تقدم أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) هم غاية الخلق ولأجلهم خلق الله كل ما في الكون، بل بهم خلق الله كل ما في الكون، كما في الدعاء المتقدم: (فبهم ملأت سماءك وأرضك ...) فهم الآية الكبرى التي تدل عليه تعالى، وبهم عرفت الخلائق إلهها وربها.

وأما جواب السؤال الثاني، وهو معرفة ماذا يريد الله تعالى؟ وكيف يعبد؟ فواضح، إذ أن معرفة ما يريده الله تعالى وكيفيته يتم عن طريق الرسل والأنبياء، ولما كانت الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسالات، كانت الطريق الوحيد لمعرفة كيفية عبادة الله تعالى، فما يريده الله تعالى من خلقه هو العبادة، وكيفيتها تكون عن طريق الرسالة الخاتمة.

فتبين من هذا العرض أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) محور الخلق وأساسه وغايته، إذ به يعرف الله فيوحد، ويعرف ما يريده من العبادة فيُعبد، وبذلك نفهم لماذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف المخلوقات التي خلقها الله تعالى بالدليل.

وبعد ذلك نحاول في هذه الوريقات أن نلتمس من سناه ما يضيء لنا الدرب، ولا نقول: نسلط عليه الضوء لنعرف بعضا من شخصيته الفذة، إذ هو أساس النور ومنبعه، فكان هذا الكتاب محاولة متواضعة لمعرفة شيء من هذه الحقيقة الإلهية العظمى التي لا يحيط بحقيقتها أحد على هذه البسيطة حيث قال عنها هو بنفسه (صلى الله عليه وآله) مخاطبا عليا (عليه السلام): (يا علي لا يعرف الله تعالى إلا أنا وأنت ولا يعرفني إلا الله وأنت ولا يعرفك إلا الله وأنا).[5]

نسأل الله أن يجعله ذخرا لنا يوم نلقاه ووسيلة إليه (صلى الله عليه وآله) في شفاعته لنا يوم الورود، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

 


[1] بحار الأنوار: ج84، ص199.

[2] سورة الذاريات: آية 56.

[3] مصباح المتهجد: ص803.

[4] سورة المائدة: آية 55.

[5] روضة المتقين: ج13، ص273.