الاسْتِبْدَادُ
الحلقةُ الأُولى
قيل إن الاستبداد أصل لكل فساد، وهو بيت الداء لجميع العلل، ولا يمكن حصره في جهة محددة أو نطاق مشخص، فهو فيروس لا يمكن السيطرة عليه، ينال كل من يقف أمامه، ولا يسلم منه أحد إلّا وتشكّل بصوره وأشكاله المختلفة، فلكل فرد أو جماعة استبداد من نمط معيّن، يزيد ويضعف تبعاً للبيئة التي يعيش فيها والمحيط الذي يدور في فلكه.
ورعاية للأهم نغضَّ الطرف عن الاستبداد الفردي مع ماله من تأثير كبير على الحياة الاجتماعية، ومع علمنا الكامل بأن الاستبداد لا يتجاوز الفرد من طرف الفاعل والمفعول وإن مظاهره الجلية حاضرة في كل فرد من أفراد مجتمعاتنا بنسب متفاوتة، إلا أننا سنضع الثقل كل الثقل على الاستبداد الجمعي في الفكر والممارسة والمتصل بعموم المجتمع.
فالفرد عندما يستبد قد تتخطى آثاره بعض الدوائر المحيطة به إلا أنه يبقى ضمن دائرة الخاص والمعقول، أما استبداد الجماعات فلا يقف نحو خط معين ويتخطى المسموح والمعقول.
صحيح أن كلمة (الاستبداد) لم يأت ذكرها في الكتاب الحكيم ولكن معانيها ومرادفاتها أو ما يضارعها أمثال: الطغيان التعسف، الظلم، الفساد، قد تعد بالمئات ولعل أغلب السور القرآنية تطرقت إلى معنى الاستبداد بصورة أو بأخرى.
الإمام علي (عليه السلام) ونبذ الاستبداد:
التجربة الأقدس والأنموذج الأطهر لحاكمية الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) هي خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي التي رسمت الخطوط العامة لكيفية تصرف الحاكم مع شعبه وخصوصاً مع معارضيه وحـــددت كذلك حقوق الراعي والرعية والواجبات المفروضة على كل طرف، لذلك-في كل زمان ومكان- نعتبر حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) المعيار في تقييم الحكومات، والمحك في تشخيص الحكام، فتجربته (عليه السلام) غنية وثرية وفيها الكفاية للساعين وراء العدل والحرية والتقدم.
وهناك زخم عظيم من الأقوال والروايات التي تحث على نبذ الاستبداد والأخذ بمبدأ الشورى والعدالة في الفكر والعمل وأغلبها إذا لم نقل معظمها واردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا تأكيد آخر على الأهمية التي يوليها الإمام (عليه السلام) لهذا المرض الفتاك وكيفية الخلاص منه، منها: (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) وقال (عليه السلام): (الحازم لا يستبد برأيه). وقال (عليه السلام): (خاطر من استبد برأيه) وقال (عليه السلام): (من استبدّ برأيه زل)[1].
أنواع الاستبداد: يمكن تصنيف أنواع الاستبداد وفقاً لمعيارين:
الأول: من حيث الجهة الصادر عنها الاستبداد فقد يكون المستبد فرداً سواءً كان حاكماً أو أباً أو زوجاً أو معلماً، وقد يكون المستبد عائلة أو عشيرة أو قبيلة عندما تستأثر أحداها لنفسها بإدارة نظام الحكم، وقد يكون المستبد حزباً سياسياً فيما (الاستبداد الحزبي) عندما يحكم الدولة والمجتمع حزب واحد وتلغى أو تهمش باقي الأحزاب ومنظمات المجتمع.
المعيار الثاني: تصنيف الاستبداد من حيث مجالاته كالتالي: الاستبداد (الفكري) و(الاجتماعي) و(السياسي) و(الاقتصادي).
[1] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: ص439.