مسجد النقطة:
المقام المشرّف لرأس سيدنا الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يسميه الناس مسجد النقطة، لأنّ نقطة دمٍ من الرأس الشريف ذُكر أنّها سقطت على الحَجَر الذي وُضِع عليه في هذا المكان، وهذا الحجر ما زال موجوداً داخل المقام ضمن قفصٍ مذهّب، وموضع النقطة ما زال بادياً عليه، قال أبو الفضل يحيى بن سلامة الحصكفي:
قوم لهم في كل أرض مشهد لا بل لهم في كل قلب مشهد
سبب إقامة المشهد:
وقد ذكر عن سبب إقامة هذا المشهد أن أهالي حلب رفضوا، استنكاراً لجريمة مقتل الحسين (عليه السلام) وأنصاره، أن يستقبلوا موكب رؤوس الشهداء والأسرى والسبايا وهو في طريقه من كربلاء إلى الشام، مع مرافقيه من زبانية يزيد الذين كانوا يتوقون أن تستقبلهم حلب بالزينة والترحاب، ولكن بعدما أغلق الأهالي أبواب المدينة في وجههم، اضطُرّ هؤلاء لأن يبيتوا ليلتهم مع الرؤوس والأسرى في دير يقع على سفح جبل مطل على حلب لجهة الغرب، وهو ما سُمّي فيما بعد بجبل جوشن نسبة إلى اللعين شمر بن ذي الجوشن الذي كان يقود الموكب.
وقد ذُكر أن الراهب النصراني المسؤول عن الدير لمّا علم مَن هم أصحاب الرؤوس والسبايا هاله الأمر، واستفظع هذه الجريمة، وطلب من شمر - بعدما أغراه بالمال - أن يسمح له بوضع رأس الحسين (عليه السلام) في الدير ليبيت هو معه تلك الليلة، وقد شاهد هذا الراهب في الليل من الكرامات للرأس الشريف - ومنها نقطة الدم - ما جعله يصبح معلناً إسلامه.
ومنذ ذلك الحين أصبح هذا الموضع محل اهتمام المسلمين يزورونه ويتبرّكون به ويتذكّرون عنده آلام أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تحوّل من دير إلى مقام ومسجد مشهود، كانت تطاله يد العناية في أزمان والإهمال في أخرى.
وصف المقام الشريف:
المقام المشرّف قائم على سفح جبل في حي الأنصاري، وهو بناء تاريخي شامخ يطلّ ببهاء بقبابه وحجارته الكلسية الكبيرة المنحوتة وبمظلّته القرميدية الحديثة التي سُقِّفت بها باحته الداخلية، وحوله فراغ من الأرض هي أوقاف له، وندخل من بوابة قديمة فنجد ساحة واسعة حديثة الترميم، وحولها غرف بنيت مؤخراً لإيواء الزوار.
أما عمارة المشهد التي كانت تعتبر من أروع المباني الأيوبية والتي رممّت وأعيدت على ما كانت عليه سابقاً، فتدخلها من باب ترتفع فوقه قنطرة تتدلّى منها مقرنصات جميلة وكتابات قديمة محفورة بخط نسخي أيوبي: بسملة.. وعبارة «اللهم صلّ على محمد النبيّ، وعليّ الوصيّ، والحسن المسموم، والحسين الشهيد المظلوم، وعليّ زين العابدين، ومحمد الباقر علم الدين، وجعفر الصادق الأمين، وموسى الكاظم الوفي، وعليّ الطاهر الرضيّ، ومحمد البر التقيِّ، وعليّ الهادي النقيّ، والحسن العسكريّ، وصاحب الزمان الحجة المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، واغفر لمن سعى في هذا المشهد بنفسه ورأيه وماله».
وعلى نجفة الباب الداخلي يوجد: «بسملة.. عُمّر مشهد مولانا الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في أيام دولة الملك الظاهر العالم العادل سلطان الإسلام والمسلمين سيد الملوك والسلاطين، أبي مظفر الغازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين في شهور سنة ست وتسعين وخمسمائة».
ويواجهك عند الدخول الواجهة الغربية للباحة السماوية التي سقّفت حديثاً بالقرميد والزجاج، وهي الواجهة الفخمة والجميلة البناء والتي تعلو عقداً عالياً يضم القفص الذي يحمي الحجر الذي وضع عليه رأس الحسين (عليه السلام)، حيث يتحلّق حوله الزوار يلتمسون منه البركة ويظهرون عاطفتهم ومحبّتهم لأهل البيت (عليهم السلام)، ويتوجهون إلى الله من خلالهم لقضاء حوائجهم، وعلى رأس هذه الواجهة لوحة كبيرة نقشت عليها البسملة وأسماء المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، والواجهة الجنوبية يحتلها المصلّى المستطيل الشكل الذي تعلو سقفه الحجري ثلاث قباب، واحدة منها كبيرة فوق المحراب، وكلها مزيّنة بمتدلّيات ومقرنصات جميلة.
وفي الجهة الشمالية للصحن رواق واجهته عبارة عن ثلاث قناطر، وتعلو الرواق ثلاث قباب كرويّة تستند إلى زوايا مثلثة، ترتكز على أكتاف أربع قناطر متقابلة داخل الرواق، أما في الجهة الشرقية الشمالية من هذا الرواق فممرّ مسقوف يؤدي إلى المطبخ، وأما الجهة الشرقية فتضم المدخل وأربع غرف، وفي الزاوية الشمالية الغربية يوجد ممر مسقوف ينتهي إلى قاعة كبيرة تؤلف وحدة معمارية متكاملة، وإلى جانبها لجهة الغرب غرفتان استُغِلّتا لإقامة مكتبة عامة تحتوي مجموعة كبيرة من الكتب المتعلّقة بأهل البيت عليهم السّلام وتعجّ بالشباب المطالعين.
عمارة المسجد:
ممن اهتم بعمران هذا المسجد والمشهد الحمدانيون، وقد شهد تجديدات هامة في زمن الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، ففي سنة 573 هـ وبعد ظهور كرامة للحسين (عليه السلام) شهدها الحلبيون في موضع المقام الذي كان دارساً، بادروا إلى بنائه بمساعدة الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين.
وقد زاره صلاح الدين يوسف لمّا مَلَك حلب وأطلق له عشرة آلاف درهم، ولما ملك ولده الظاهر حلب اهتم بالمشهد ووقف عليه وقفاً، وجعل نقيبَ الأشراف العالم الشيعي شمس الدين أبا أعلى بن زهرة الحسيني ناظراً عليه. ولما ملك ولده العزيز حلب استأذنه القاضي بهاء الدين بن الخشّاب في إنشاء حرم فيه بيوت يأوي إليها من انقطع إلى هذا المشهد، فأذن له.
استولى التتار على حلب قبل أن يتم البناء، وقد دخل هؤلاء المشهد فأخذوا ما فيه من نفائس وذخائر وشعثوا بناءه ونقضوا أبوابه.
ولما ملك السلطان الظاهر حلب جدّده وأصلحه ورتّب فيه إماماً ومؤذّناً وقيّماً، وبقي بعد ذلك مدة مهملاً إلى أن عاد الاهتمام به أواخر القرن الماضي حيث أصبحت تقام فيه الاحتفالات الدينية التي كان يحضرها رجال الحكومة العثمانية والأعيان والعلماء، وقد أهدى له السلطان عبد الحميد ستاراً حريرياً مزركشاً بآيات قرآنية وُضِع على المحراب، كما جدّد ترميم أرض الصحن ورتّب له إماماً ومؤذناً وخادماً.
ويذكر الشيخ إبراهيم نصر الله إمام المسجد والقيّم على المقام أن هذا المقام كان قد دُمّر أكثره بعد الحرب العالمية الأولى لأنه استُعمل كمستودع للذخيرة من قبل الحلفاء، وبعد انتهاء الحرب في 22 تموز 1919م ذهب الألوف من الناس لأخذ السلاح والذخائر منه وفي الأثناء انفجرت قنبلة فجّرت جميع الذخائر وخُرِّب المشهد وقُتل المئات تحت الردم.
وفي عام 1960 قام جمع من علماء المسلمين الشيعة وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم الحاج حسين - الذي توفي مؤخراً وقبره في باحة المقام الخارجية - والشيخ إسماعيل الحاج حسين، والمرحوم الشيخ عباس الحاج خليل، بتأسيس جمعية بهدف إعادة بنائه
والاهتمام به، فاستحصلت على رخصة وإذن دائم من أوقاف حلب بالإشراف على المقام وإعادة بنائه، وقد اتصلت اللجنة بالمرجع الديني السيّد محسن الحكيم (قدس سره) الذي شجّع الفكرة وأذن لهم بصرف الحقوق الشرعية عليه، كما بذل العلاّمة المرحوم
السيّد حسين مكي جهوداً في الشام لتشجيع المؤمنين للبذل على المشروع. وقامت الجمعية بإعادة بناء المشهد بالإضافة إلى مدرسة دينية فيه، وقد استفاد المهندسون من الخرائط الموجودة في دائرة الآثار بحلب لإعادة البناء على ما كان عليه سابقاً، وبذلك حافظوا على طرازه الأيوبي القديم.
مشهد المحسن:
على الجبل نفسه وعلى بعد حوالي 300 متر جنوبي مشهد الحسين (عليه السلام) يقوم مشهد آخر منسوب لآل البيت (عليهم السلام)، هو مشهد المحسن. وهو المكان الذي ذُكر أنه كان «منطرة» للكروم، وقد وضعت فيه السبايا في تلك الليلة التي بِتْن فيها خارج حلب، وهناك كما تقول الروايات أسقطت زوجة الحسين (عليه السلام) الرباب سقطاً سُمّي بالمحسن، وقد أصبح هذا المكان مزاراً لمحبي أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن طُمست معالمه مع الزمن، إلى أن حدث ذات مرّة أن سيف الدولة الحمداني كان يجلس للنظر إلى حلبة السباق من على دكة على الجبل المقابل، فشاهد نوراً ينزل على المكان الذي فيه المشهد عدة مرات، فلمّ أصبح ركب بنفسه إلى ذلك المكان وحفر فوجد حجراً عليه كتابة نصها: «هذا قبر المحسن بن الحسين بن علي ابن أبي طالب (عليهم السلام)»، وكان ذلك في سنة 351 هـ، فجمع سيف الدولة العلويين وسألهم هل كان للحسين (عليه السلام) ولد اسمه المحسن؟ فقيل له: إن بعض نساء الحسين (عليه السلام) لما وردن هذا المكان طرحت هذا الولد، عندها بادر سيف الدولة لإقامة بناء على هذا المشهد، وقد أضاف عليه قسيم الدولة اقسنقر سنة 582 هـ بعض الإصلاحات ووقف عليه بعض الأوقاف، وفي أيام نور الدين محمود ابن زنكي بُنيت في صحن المشهد بيوت ينتفع بها المقيمون به.
وقد أُحدثت إصلاحات وتجديدات في المشهد في أيام الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن صلاح الدين، ثم في أيام الملك الناصر بن الملك الظاهر، ولما احتل التتار حلب ونهبوا المشهد وخرّبوه أمر الملك الظاهر بإصلاح المشهد وعيّ له إماماً وقيّماً ومؤذناً.
ويتم الدخول إلى المشهد بعد صعود درج طويل من الطريق من باب كبير يرتفع فوقه عقد عال تتدلى منه المقرنصات والزخارف وعليه كتابة نصّها: «بسملة.. أمر بعمارة هذا الموضع المبارك مولانا السلطان الملك الظاهر غياث الدنيا والدين أبو المظفر الغازي بن يوسف.. في سنة تسع وستمائة».
وحول الصحن لجهة الشمال والغرب تقوم غرف قديمة لخدم المقام والمجاورين، وعلى الواجهة الشمالية من الصحن كتابة قديمة تحتوي على الصلاة على محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء وخديجة الكبرى.. حتى تأتي على ذكر جميع الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام).
أما الجهة الجنوبية فتحتوي على المسجد وعلى الغرفة الكبيرة التي تضم قبر المحسن (عليه السلام) الذي أقيم عليه صندوق من خشب على جهاته الأربع نقوش ملونة ورسوم قناديل مدلاّة وسورة التوحيد، ويدور حول إطار الصندوق من أعلاه كتابة بالخط الكوفي المزهّر يصعب قراءتها، وهي تعود إلى أيام الطاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي أو لأوائل عهد المماليك، ولا يخلو هذا المشهد من الزائرين سواءً من أهالي حلب وجوارها، أو من القادمين من مختلف البلاد الإسلامية.
المصدر: بيوت المتقين (17) شهر صفر 1436هـ