في كل عصر يتجه الناس في أفكارهم وتوجهاتهم إلى الثقافة السائدة في المجتمع، فيصوغوا حياتهم المادية والمعنوية بالشكل واللون الملائم لتلك الثقافة، لذا نرى اليوم توجه العالم نحو العلوم الطبيعية والتجريبية، والسعي إلى تطهير التفكير بماء بحر المادة والملموسات، كما يطوون كشحاً عن الأمور المعنوية والإمدادات الغيبية، مما يضعف الجانب الاعتقادي والالتفات إلى المسائل المعنوية.
كما أن حالة الانهماك في عالم المادة له أثر انتقال وعدوى من شخص لآخر، نتيجة التعامل والاختلاط مع أصحاب هذا الاتجاه، فقد يقع الكثير تحت تأثير الاتجاهات المادية، والابتعاد عن الحقائق المعنوية خصوصاً تلك المقتبسة من سيرة وحياة أهل البيت (عليهم السلام).
إن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) تحكي ضرورة سعي الإنسان إلى درك الحقائق المعنوية وعلاقتها بالجانب الإيماني، والتماس الإمدادات الغيبية، تلك التي لا يدركها من ينظر من وراء عدسة المادة إلا بلون واحد، كيف وهذا الكون المليء بالحقائق والعجائب؟
وهل يستطيع الشخص أنْ يرى الألوان والأشياء على طبيعتها بعد أنْ وضع نظارة معتمة على عينيه؟ وهل يتمكن الإنسان الذي يحبس نفسه في حصن من الماديات الاطلاع على العالم الخارجي الذي يقع خلف ذلك السور؟
وهل يستطيع الشخص الذي يعيش في مكان مظلم أن يشاهد الأحداث من حول؟
الغيبة من العالم الغيبي:
كثير من الناس الذين وجدوا في عصر غيبة الإمام (عليه السلام) أحاطوا أنفسهم بسور المادة الضيّق، فحبسوا تفكيرهم عن العالم الواسع، وأعجزوا عقولهم عن إدراك المعاني غير المادية، فهم سجناء بالاختيار والعمد، بل وهم أسوأ من غيرهم الذي يتحملون عقوبة السجن بلا اختيار؛ لأن السجين في الحالة الثانية يفكر ويتأمل الخروج من سجنه إلى الحياة الواسعة.
لابـد للإنسـانية في عصر الغيبة أن ترفع الحجب والغشاوة عن أبصارها وبصائرها، ولابد للمؤمنين من البحث عن المذاق المعنوي الطيب لعصر الظهور، وأن يدركوا عن عظمته وحلاوته.
يصح أن نصف أنفسنا أننا جميعاً واقعون في سجن الغيبة، وربما نكون في غفلة عن عصر الظهور المشرق، لكن لسنا عاجزين عن ربط أفكارنا وحياتنا بعصر الظهور، وإن المسافات ليست بعيدة عما يتعلق به من القضايا المعنوية والروحية.
لذا فإننا نأمل من المؤمـنين الالتفات إلى هذا الجانب، وتثقيف المجتمع المهدوي نحوه، وإن المجتمع في نظــرته إلى عصر الظهور ـ الذي هو عصر التكامل الإنساني ـ سيصل إلى حالة التكامل في كلا البعدين المادي والمعنوي، ويستمر في حياة عامرة بمعرفة وعلم وعقيدة بمسألة الغيبة والظهور على صاحبه الصلاة والسلام.
إن من أهم المعطيات المعرفية بهذه المسألة أن تكون جميع القوى والمقومات النظرية والعملية في نظر المجتمع زمن الغيبة، بحيث تكون أفكاره وأعماله مما لا يتنافى مع الغيبة والظهور، فإنه إذا حصل هذا الأمر فإن المشاعر والإدراكات الإنسانية في ذلك المجتمع ستكون خالية من كل الشوائب، وبالتالي لن تستطيع الحيل الشيطانية التي يتبناها البعض أن تجرّهم إلى منزرق عقائدي يهدد إيمانهم.
والغبطة للمؤمنين الذين يدركون زمن الظهور المبارك وهم على بيّنة من أمرهم، ويرتبطون بإمامهم الحاضر كما كانوا مرتبطين به في زمان الغيبة.
وقد بينت الروايات هذه الحقيقة عندما بيّنت ملامح عصر الظهور، فهي تحتوي على نقاط مهمة ودقيقة تعرّف الإنسان على أهم وظائفه في زمن الغيبة وترسم له منهاجاً علمياً، وكذلك تبيّن حالة السرور والفرح التي تغمر أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ينقـل الإمام الصادق (عليه السلام) عـن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قوله: «طوُبی لِمَنْ أَدرَكَ قائِمَ أَهلِ بَیْتي وَهُوَ مُقتَدٍ بِهِ قَبْلَ قِیامِهِ، یَتَولّی وَلیَّهُ، وَیَتَبرَّأُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَیَتَوَلى الاَئِمَّةَ الهادِیَةَ مِنْ قَبْلِهِ، أَوُلئِكَ رُفَقائي وَذَوُو وُدّي وَمَوَدَّتي وَأَکْرَمُ اُمَّتي عَلَيَّ»[1].
وعلى هذا الأساس يجب أنْ يكون الدرك والفهم والمقدار المعرفي للإنسان، مستمراً، يبدأ من عصر الغيبة وينتهي بالقتال والشهادة بين يدي الإمام (عليه السلام). والرواية وإن تعلقت بزمن الظهور المشرق المشرّف، ولكنها تبيّن ما على المؤمن أن يكون فيه من الناحية العملية والعلمية المهمة لعصر الغيبة.
المصدر: مجلة اليقين العدد (62)