ظهور السلبيات التي أفرزها التحريف

ويتضح ذلك بملاحظة أمر له أهميته، وهو أن الغرض المباشر من إقحام التراث المشوه في الأديان - بما في ذلك دين الإسلام العظيم - هو تقبّل أتباعها له وإيمانهم به. وهو لا يكون إلا لوجود الأرضية الصالحة لذلك بسبب اختلاط الأمر على الناس، وعدم وضوح معالم الحق من الباطل لهم. فوجود التراث المذكور في الأديان يكشف عن تحقق تلك الأرضية حين إقحامه.

ولو أن الإسلام جرى على سنن الأديان السابقة، وتم للخط المخالف لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ما أرادوا، ولم يكبح جماح الانحراف والتحريف نتيجة ما سبق، لبقيت هذه الأرضية والتقبّل أهل كل دين تراثهم على ما هو عليه من التشويه، ولم يتوجهوا للسلبيات، لتشابه الأديان في ذلك كواقع قائم، ولبقي الأمر مختلطاً على الناس.

بينما نرى الآن أن ما يحمله التشوه من خرافات، أو ظلم للحقيقة لا يتناسب مع حقيّة تلك الأديان، أو تنافي كمال الله عز وجل المشرع لها، أو قدسية الوسائط بينه وبين خلقه من الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم)، كل ذلك قد صار سمة عار على تلك الأديان وعلى المنتسبين إليها.

بحيث يكون مثاراً للنقد، بل الهجوم من طرف الخصوم، وسبباً لإحراج المنتسبين لتلك الأديان، حتى قد يضطرون لتأويلها والخروج عن ظاهرها إن وجدوا لذلك سبيلاً، أو للف والدوران، وإشغال الخصوم بأمور جانبية تهرباً من الجواب.

وربما يتهربون من فتح باب الحوار أو يغلقونه بعد فتحه، لشعورهم بالعجز عن الدفاع والاستمرار في حلبة الجدال والصراع.

بل كثيراً ما يحاول حملة تلك الأديان والمعنيون بها صرف أتباع دينهم عن النظر في تراثه والاطلاع عليه والتدبر فيه، أو منعهم عن فتح باب الحوار مع الآخرين والاطلاع على تراثهم والتعرف على وجهة نظرهم، حذراً من أن يصاب أتباع ذلك الدين بصدمة تزعزع عقيدتهم، وتجعلهم يبحثون عن البديل لها.

وقد ذكر لي بعض المستبصرين أنه كان اختصاصه الثقافي في دينه السابق الذي انتقل عنه علم الدين، وأنه كان لهم في تثقيفهم الديني درسان:

الأول: يتضمن أن عليهم - كمر شدين دينيين - تشجيع المنتسبين لدينهم على اقتناء كتابهم الديني - الذي هو كالقرآن المجيد في الإسلام - من دون أن يقرؤوه ويطلعوا على ما فيه.

الثاني: يتضمن كيفية تعاملهم مع من يسألهم عما يتضمنه دينهم من تعاليم، وذلك بتعليمهم كيفية صرف السائل عن سؤاله، والالتفاف عليه وإشغاله بأمور جانبية تنسيه ما سأل عنه، وتصرفه عنه.

ومن الظاهر أن الغرض من الأول هو تأكيد الانتساب للدين باقتناء كتابه، من دون اطلاع على ما يتضمنه من سلبيات تثير الشبه فيه أو التنفر منه والخروج عنه.

كما أن الداعي الثاني هو الشعور بالعجز عن الدفاع عما يتضمنه الدين المذكور من المفرقات والسلبيات التي تحمل السائل على السؤال عن المخرج منها وحلّ إشكاليتها.

كما ذكر لي المستبصر المذكور أن سبب استبصاره وانتقاله عن دينه السابق أنه رغب في تقوية ثقافته الدينية باطلاعه على ما يتضمنه كتابه المذكور، والاستفادة منه، حباً منه لدينه، من أجل أن يتقرب إلى الله تعالى، ويأمن من نار جهنم في الآخرة.

لكنه لما اطلع على ذلك الكتاب وتدبره واستوعبه فوجئ بالتناقضات والسلبيات الذي يتضمنها دينه، واتضح له بطلانه، فانصرف عنه وخرج منه واعتنق الإسلام.

ثم اهتدى لخط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، واعتنق المذهب الحق في رحلة طويلة سهلها الله عز وجل عليه بتوفيق منه ورحمة، حين علم منه اهتمامه بالحقيقة ومحاولة الوصول إليها والاهتداء بها.

وذلك كله يكشف عن اهتزاز تلك الأرضية الصالحة لتقبل التراث المشبوه للأديان المذكورة والتعامل معها على أنها الواقع الطبيعي للأديان، وأن معالم الحق والباطل أخذت موقعها المناسب من مرتكزات الناس، وصارت من الوضوح بحيث يتسالم عليها الكل، وقامت الثوابت التي يرجع إليها في مقام البحث والاستدلال.

كل ذلك بسبب كبح جماح الانحراف في الإسلام نتيجة الجهود المتقدمة. ولا أقل من أن لذلك تأثيره المهم من هذه الجهة.

ولا نعني بذلك أن الناس قد اهتدت للدين الحق، ورفضت الأديان المحرفة. إذ لا زالت الحواجز عن ذلك قائمة من تقليد أو تعصب، أو مصالح مادية، أو عدم الاهتمام بمعرفة الحقيقة... إلى غير ذلك من العوامل.

بل كل ما حصل هو وضوح معالم الحق، بحيث جعل أهل الأديان المحرفة يدركون سلبيات أديانهم ويضيقون بها، على خلاف ما كان عليه أسلافهم.

أما الاهتداء للدين الحق فيبقى منوطاً بأسبابه، وأهمها النظرة الموضوعية في الأدلة والحجج، والشجاعة في تخطي الحواجز، والاهتمام بالوصول للحقيقة، مع التوفيق والتسديد الإلهي. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[1] وَ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)[2].

 


[1] سورة العنكبوت الآية: ٦٩.

[2] سورة الأعراف الآية: ٤٣.