آداب معاشرة الناس وآثارها

من وصية أمير المؤمنين(عليه السلام) لبنيه عند احتضاره: (يا بنيّ عاشروا الناس عشرة إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فُقدتم بكوا عليكم)[1].

إن للعشرة حقوقاً وآداباً رسمها الإسلام، وبقدر مراعاتها والحفاظ عليها يكون النجاح في العلاقات مع الآخرين، وهي على درجات في بناء الأواصر والروابط بمقدار التودد والتواصل، وتشكّل قضية من القضايا التي تحتل مكانة محورية في الحياة الداخلية بين المسلمين وكذلك في حياتهم الخارجية مع أبناء الأديان الأخرى وإذا قرأنا سيرة النبي(صلّى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) لوجدناها مليئة بأخبار الذين اعتنقوا الإسلام تأثراً بالمعاملة التي قابلهم بها عظماؤنا، كقصة النبي(صلّى الله عليه وآله) مع ذلك اليهودي الذي كان يرمي القمامة على باب النبي (صلّى الله عليه وآله).

الدين الإسلامي دين عشرةٍ وليس دين عزلةٍ ورهبنةٍ، وهو ينظر إلى الروابط البشريّة نظرة اهتمامٍ وتقديس، والمعاشرة بالحسنى سبب من أسباب القوة والتماسك وتوجد مناعة حيوية في المجتمع، بينما الاختلاف والتشرذم عامل هدّام وسبب من أسباب الضعف إن لم يكن هو الضعف نفسه.

وها هو القرآن الكريم ينادي إلى حسن العشرة مع الوالدين والأقرباء واليتامى والمساكين والجيران وسائر الأصناف الذين وردوا في قوله تعالى:
﴿وَاعْبُدُواْ الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا[2].

ومما أوصى به مولى المتقين علي(عليه السلام) بنيه المحافظة على أعلى درجات العشرة الطيّبة والمعاملة الحسنة التي تصل إلى حدٍ لو غاب صاحبها لحنّ الناس إليه واشتاقوا إلى رؤيته ومجالسته والاستماع إلى منطقه الجميل والاستفادة من آدابه العالية، وكذلك إن فقد أو مات بكوا عليه لأنهم فقدوا برحيله يدَ عونٍ، ونظرة رأفة ورحمة، ووجهاً من وجوه الخير والسعادة، لأنها متجسّدة بأجمعها في صاحب العشرة الطيبة، وحياته المليئة بالشمائل الإسلامية.

وفي المقابل لو كان الإنسان سيئ‏ العشرة فإن الناس سوف يقولون عند غيابه أو فقدانه، لقد انقطع ظلمه، وانتهت عباراته الجارحة وأراحنا الله تعالى من وجهه المشؤوم وغير ذلك جرّاء ما كان يسبّبه لهم من عناء وتعب أو ظلم واضطهاد.

آثار حسن العشرة:

تترك العشرة الطيبة بين أبناء المجتمع آثارها في ديمومته متحاباً متواصلاً وموطناً للراحة والاطمئنان فقد ورد عنهم(عليه السلام) أحاديث عديدة تكشف عن النتائج الهامة للعشرة الكريمة:

1. دوام المودة: فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (بحسن العشرة تدوم المودّة)[3].

2. دوام الوصلة: في الحديث: (بحسن العشرة تدوم الوصلة)[4].

3. عمارة القلوب: في الحديث: (عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول)[5].

وفي حديث آخر: (مجالسة ذوي الفضائل حياة القلوب)[6].

4. السعادة والنُبل: عن مولى المتقين علي(عليه السلام): (عاشر أهل الفضائل تسعد وتنبل)[7].

5. أنس الرفيق: في الحديث: (بحسن العشرة تأنس الرفاق)[8].

6. السلامة من الغوائل: فيما ورد عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (جاملوا الأشرار بأخلاقكم تسلموا من غوائلهم، وباينوهم بأعمالكم كيلا تكونوا منهم)[9].

حسن العشرة في المنزل‏:

حينما نتحدث عن حسن العشرة نريد منه المجموع لا الاكتفاء بفرد دون آخر، فلو كانت علاقة الإنسان ممتازة مع أخوانه وأصدقائه أو مع جيرانه ولكنه في نفس الوقت لا يهتمّ بمراعاة الآداب مع عائلته داخل المنزل وتلقى منه الويلات والمصائب في كلماته ومعاملته السيئة فهو ليس على خير ولم يقم بما هو مطلوب منه كاملاً لأنّ المطلوب هو المجموع أي حسن العشرة مع الكل ولا يعذر المرء إذا أساء المعاملة مع أولاده أو بعض أرحامه بداعي المحافظة على حسن ارتباطه بالآخرين، فالمعاشرة المنزلية الجميلة أمر لا غنى عنه وجزء لا يتجزأ من منظومة المعاشرة بإحسان بل هي الجزء الأهم والأساس.

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإن الرجل ليُكتب جبّاراً ولا يملك إلا أهل بيته)[10].

وقد رتّب الله تعالى جزيل الثواب على الصبر وحسن العشرة البيتية والتجاوز عن عثرات الأهل كما يحدثنا مولانا الباقر(عليه السلام) حيث يقول: (إني لأصبر من غلامي هذا ومن أهلي على ما هو أمرّ من الحنظل، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدّام محمد (صلّى الله عليه وآله))[11].

 


[1] الأمالي، الشيخ الطوسي: ص595.

[2] سورة النساء: آية36.

[3] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: ص187.

[4] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: ص187.

[5] المصدر السابق: ص340.

[6] المصدر السابق: ص485.

[7] المصدر السابق: ص340.

[8] المصدر السابق: ص187.

[9] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج71، ص199.

[10] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج11، ص291.

[11] ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق: ص198.