يقول علماء التنمية البشرية والاجتماع: إن أهمية الإبداع تكمن في كونه عمليّة إنتاج تشهد في كلّ لحظة ولادة أمر جديد ذي قيمة معتبرة في ميدان ما، وهم يعدّون الإبداع ضرورة من ضرورات تكامل الحياة.
كما يعدّون الإبداع الإنساني عملية مركبة تحصل نتيجة تفاعل عدّة عوامل عقليّة وبيئيّة واجتماعيّة وشخصيّة، هذا التفاعل يقدّم حلولاً جديدة مبتكرة لمواقف عمليّة أو نظريّة في المجالات الحياتيّة المختلفة، وتكون هذه الحلول متميزة بالحداثة والأصالة والقيم الإنسانية المؤثّرة.
ومن هنا ننطلق للحديث عن الآفاق الإنسانية المؤثرة التي رسمت الحلول الكثيرة لحياة الإنسان ما قبل الإسلام، ولعل أحد أسرار بعث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مجتمع ـ كان يعيش درجة عالية الانحطاط الإنساني والاجتماعي ـ أن تظهر عظمة هذه الرسالة ويتميّز بها الرسول (صلى الله عليه وآله) بالابتكار والإبداع بالمعنى الحاضر.
فلو فرضنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) بُعث في مجتمع له تاريخ من الحضارة والتقدم والتطور الإنساني لسهل القول بأنه انطلق من تجربة مجتمعه واستفاد من تاريخ محيطه، ولكن أن يأتي هذا الرسول في مجتمع يعيش الجهل والانحطاط الاجتماعي، ثم يعرض على البشرية هذه الرسالة العظيمة الرائعة في مختلف المجالات، حينها لا يبقى لأي عاقل مجال للشك في أن هذه الرسالة ليست إنتاجاً بشرياً، ولا تعبيراً عن مستوى ذاتي.
ولعلك تسأل: ما وجه الإبداع النبوي إذا كانت هذه الرسالة غير بشرية؟
نقول: إن وجه الإبداع في طريقة تقديم الرسالة بهذا المستوى العالي من المضامين على ذلك المجتمع، فليس ثمة أحد له القدرة على عرض رسالة الإسلام إلى ذلك المجتمع الجاهلي، بحيث يكون مؤثراً ويتوقع منه نتيجة إيجابية، غير النبي (صلى الله عليه وآله) فاصطفاه الله تعالى لهذه المهمّة، حيث تتوفر فيه مقوّمات الإبداع بصورة تامة ودرجة كاملة، وإلا فالمحيط الاجتماعي الذي عاش فيه النبي (صلى الله عليه وآله) لا يسمح بأي حال من الأحوال لشخص يعيش تلك الظروف أن يقدم مثل الرسالة وهذه الشريعة.
نعم، بعث النبي (صلى الله عليه وآله) وفي كل بيت من بيوت مكة صنم يُعبد من دون الله، وكان العربي آنذاك قبل سفره يتبرك بالتمسح بالأصنام التماساً للخير منها، كما يفعل ذات الأمر إذا عاد من سفره.
كانت العصبية والنزاعات والحروب هي الثقافة السائدة في ذلك المجتمع ولأتفه الأسباب، كما حفظ لنا التأريخ ما جرى في حرب البسوس حيث أصاب شخص ضرع ناقة بسهم فقامت إثر ذلك حرب استمرت لأكثر من أربعين سنة قتل فيها الألوف. وعلى ذلك المنوال جرت حرب داحس والغبراء، بسبب خلاف على سباق بين فرسين، واستمرّت هذه الحرب عشرات السنين هلك خلالها الحرث والنسل.
جاء النبي الأكرم وسط هذا المجتمع الذي كان غارقاً في هذه الجهالات والتخلف في مختلف مجالات حياتهم، كما وصفهم الله تعالى: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ)[1]، حيث كان مجتمعاً بعيداً عن الإنسانية في طريقه إلى الانقراض والانتهاء، فهو يقتل بناته بالوأد، ويقضي على أولاده بالغزو، كان مجتمعاً مهدّداً باللعن الدائم، مثل قوم عاد وثمود، فأبدع منه(صلى الله عليه وآله) مجتمعاً جديداً، وصيّره أمة متقدمة، استطاعت أن تنتشر، وأن تقود العالم خلال فترة تأريخية قياسية، إن في ذلك دلالة كبيرة على عظمة هذا الدين وعظمة وإبداع الرسول(صلى الله عليه وآله).
من كل هذا فإنّا نجد أنَّ ذكرى المبعث النبوي الشريف فرصة من الفرص التي منحها الله تعالى لنا، لتجديد الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة، كما نذكر نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله) وفضله، وما قدّم من التضحيات؛ ليصل إلينا ما نحن عليه من الهدى الإلهي.
ومادام عندنا هذا الهدي الإلهي وهذه الرسالة العظيمة، فينبغي ألا نخضع لليأس مما نرى اليوم وما تمرّ به الأمة الإسلامية من المشاكل، فالأمة الإسلامية وخاصة في المحيط العربي أصبحت تعيش اليوم وضعاً شبيهاً بأوضاع العرب في الجاهلية، فكأنها خارج سياق التطور البشري في مختلف المجالات والأبعاد، فلا ينبغي أن يصيبنا ذلك بالإحباط مادام عندنا هذا الهدي الإلهي وهذه الرسالة العظيمة. وإن الرجوع إلى تلك القيم النبوية السامية هي الطرق التي نتجاوز بها التخلف والانحطاط، كي تعود الأمة الإسلامية إلى سالف مجدها واعتزازها بدينها القويم.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (35)