المناظرة شروطها وآدابها

لا شكّ بأنّ الحوار العلمي والاحتجاجات والمناظرات القائمة على الأسس المنطقية والأخلاقية من أفضل الوسائل للوصول إلى الحقائق والكشف عنها، وقد حث القرآن الكريم على هذه الطريقة من البحث العلمي، إذ قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[1].

ومن السبّاقين في هذا المضمار أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فالكتب الروائية مملوءة بالاحتجاجات والمناظرات التي دارت بينهم وبين أصحاب المذاهب الفكريّة الأخرى من المسلمين وغيرهم، في جانبي المعارف الاعتقادية والأحكام الشرعية.

وانطلاقاً من قوله تعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[2]، فلابدّ للمناظرَينِ أن يكونا مطّلعَينِ على آداب المناظرة وفنونها لكي تكون المناظرة ناجحة، ويجب أن يتّبعا آداب المناظرة لكي يخرج الطرفان منها بنتيجة مثمرة، لأنّه ربما يكون الرجل من أعلم أهل زمانه ولكنّه غير مطّلع على فنون المناظرة، فلا يكون ناجحاً فيها، وكذا لو لم يتبعا الآداب، فإن النتيجة المرجوة ستكون غير مثمرة، فينبغي للمناظر مراعاة آداب وشرائط المناظرة، وهذه الآداب تارة تكون أخلاقية، وأخرى تكون علمية ترتبط بمنهج المناظرة، وسنشير إجمالاً إلى بعضها:

1. احتمال قبول الحق والتأثير فيه، فأما إذا علم عدم قبول المناظر للحق، وأنه لا يرجع عن رأيه وإن تبين له خطؤه، وليس هنالك أي ثمرة تترتب عليها لا من قريب ولا من بعيد فمناظرته غير جائزة لعدم حصول الغاية المطلوبة منها.

2. أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره، لا ظهور صوابه وغزارة علمه وصحة نظره، فإن ذلك مراء، والذي فيه من القبائح والنهي الأكيد.

3. أن لا يكون في بال المناظر شيء أهم من المناظرة السليمة وإظهار الحق، فلا يصاحبها أي شيء من المنكر مثل الإنتقاص من قيمة المناظر وإهانته وتقبيحه.

4. أن يقبل المناظر بالحق إن ظهر على لسان خصمه، ولا تأخذه العصبية أن لا يقبل بالحق.

5. أن لا يحاول أن يطيل الكلام في موضوع ما، ويستخدم طرق من الإبداع الكلامي حتى يفوّت على من يناظره فرصة نجاحه في المناظرة خوفاً من الهزيمة.

6. أن تكون المناظرة مع عدم وجود الناس أحب إليه من وجودهم، فإن الخلوة أجمع للفهم وأفضل لصفاء الفكر والوصول إلى الحق، ففي وجود الناس ما يدعو إلى الرياء، والحرص على التغلب على الخصم ولو بالباطل، وقد يؤدي وجود المناظرة في الخلوة إلى كسل أصحاب الباطل عن الجواب وتنافسهم في الجواب في حال وجود الناس.

7. أن يكون صاحب الحق قاصداً الوصول إلى الصواب، ويحمد الله ويشكره إن وصل إلى ذلك، ولا يفرّق إن كان ظهور الحق على يده أو يد خصمه، بل عليه أن يراه رفيقاً معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحق.

8. أن لا يمنع المناظر الآخرين من الانتقال من دليل إلى آخر، ومن سؤال إلى سؤال بل يُمكّنَهم من ذلك، وإن لم يفعل فقد تنتهي المناظرة بالجدال والعناد، بشرط عدم الخروج عن موضوع المناظرة.

9. أن يناظر أصحاب العلم والفهم ليستفيد منهم إذا كانوا يطلبون الحق، والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر، خوفاً من ظهور الحق على لسانهم، ويرغبون فيمن دونهم طمعاً في ترويج الباطل عليهم.

10. من المهم أن يلتزم المناظر بالصفات الأخلاقية الحسنة حتى يكسب ود الآخرين، فيلتزم بالصدق والأمانة في الحديث ويكون متواضعاً حليماً صبوراً، يعفو إذا قدر، ويحسن حتى لمن ظلمه.

11. اختيار الوقت والمكان المناسبين، حيث إن لذلك تأثيراً كبيراً على نجاح المناظرة.

12. أن يناظر في واقعة مهمة أو في مسألة قريبة من الوقوع، وأن يهتم بمثل ذلك، والمهم أن يبين الحق، ولا يطول الكلام زيادة على ما يحتاج إليه في تحقيق الحق.

13. أن يبتعد المناظر عن الصفات الأخلاقية السيئة مثل الرياء والغضب والكبر والحسد والحقد والسخرية والسب والشماتة والغيبة وإفشاء السر وهتك الستر والقطيعة والاستهزاء والنفاق.

واعلم أن المناظرة لقصد الغلبة والإفحام والمباهاة والتشوق، لإظهار الفضل، هي منبع جميع الأخلاق والصفات المذمومة عند الله تعالى، المحمودة عند عدوه إبليس، ونسبتها إلى الفواحش الباطنة والأخلاق السيئة - أنفة الذكر والتي هي أربعة عشر خصلة مهلكة، أولها الرياء المحرم للجنة، وآخرها النفاق الموجب للنار- كنسبة الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقتل والقذف، فكما أن من خُيِّر بين الشرب، وبين سائر الفواحش، فاختار الشرب استصغارا له، فدعاه ذلك إلى ارتكاب سائر الفواحش، فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة، دعاه ذلك إلى إظهار الخبائث كلها والوقوع في شباكها.

والمتناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم، ولا ينفك أعظمهم ديناً، وأكثرهم عقلاً من جملة مواد هذه الأخلاق، وإنما غايتهم إخفاؤها ومجاهدة النفس عن ظهورها للناس وعدم اشتغالهم بدوائها، والأمر الجامع لها طلب العلم لغير الله.

وبالجملة فالعلم لا يهمل العالم أبداً، بل إما أن يهلكه ويشقيه، أو يسعده ويقربه من الله تعالى ويدنيه.

وأخيراً نقول: وراء هذه الشروط والآداب شروط أخر وآداب دقيقة، لكن فيما ذكرنا يهديك إلى معرفة المناظرة لله، ومن يناظر لله أو لعلة.

 


[1] سورة الزمر: آية17- 18.

[2] سورة النحل: آية125.