على الرغم من حداثة استخدام المفهوم فان فكرة التنمية البشرية ليست حادثة على الإنسان، بل تمتد بامتداد الوجود الإنساني ذاته، فالسعي للتنمية والتطور والنّماء ملازم لمسيرة الإنسان في حياته، وشكّل احدى الوسائل التي تطورت بها الحياة البشرية على كوكب الأرض.
والتنمية البشرية الإسلامية تأخذ بنظر الاعتبار تكريم الإسلام للإنسان، ولذا ينبغي لنا أن ندرك طبيعة النظرة الإسلامية الى النفس الإنسانية بصفة عامة، فالنفس الإنسانية بصفة عامة مكرمة ومعظمة، وهذا الأمر يؤخذ على إطلاقه، وليس فيه استثناء بسبب لون أو جنس أو دين، قال تعالى في كتابه العزيز:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[1].
وهذا التكريم عام وشامل، وهو يلقي بضلاله على المسلمين وغير المسلمين، فالجميع يُحمل في البحر، والجميع يُرزق من الطيبات، والجميع مُفضل على كثير من خلق الله عز وجل.
وقد انعكست هذه الرؤية الشاملة على كل البشر، وهذا التكريم تكريم لكل إنسان على كل بندِِ من بنود الشريعة الإسلامية، ومن ثم انعكست على كل قول أو فعل لرسولنا الكريم (صلى الله عليه واله وسلم)، وهذا يفسر لنا الطريقة الراقية الفريدة الرحيمة التي تعامل بها الرسول العظيم (صلى الله عليه واله وسلم) مع المخالفين له والمنكرين عليه.
وهو يتعامل مع نفوس بشرية مكرّمة، فلا يجوز إهانتها، أو ظلمها، أو التعدي على حقوقها، أو التقليل من شأنها.
لم تكن النهضة الحسينية المباركة، فورة غضب أو حالة نفسية ساذجة، ولا ردة فعل آنية لموقف عابر، ولا ثورة استيلاء على دولة أو شعب، بل هي مشروع تعديل وتقويم منهج وثقافة إنسانية مال بها المفسدون الى اتجاهات لا تتلاءم إلا مع الجور والظلم والاستبداد، نائين بها عن مادتها الأولى المتصلة والمنبثقة من (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[2].
لذلك سار الإمام الحسين (عليه السلام) وفق خطة ودراسة حكيمة قبل أن يضع أقدامه الشريفة في الخطوة الأولى على طريق مشروعه العظيم، الذي لا يستطيع أن يتبناه إلا إمام معصوم، فكانت نهضة ساهمت بشكل كبير في تطوير الذات الإنسانية في كافة مراحل الحياة الإنسانية والاجتماعية والثقافية.
وأول معالم هذا المشروع هو تحديد الهدف، الذي أفصح عنه الإمام عليه السلام بكلمته المشهورة (وإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)[3] وهكذا رسم الهدف في إحياء الرسالة وتثبيتها الى الأجيال القادمة.
والخطوة الثانية هي تحديد آليات تحقيق هذا الهدف، التي منها اصطحاب أهل بيته معه الى ميادين الشهادة، ليدفع شبهات طلب الحكم والدنيا حيث إنها لو استحكمت ربما تسبب فشلاً في بعض مسافاتها.
ومنها توزيع الأدوار على أصحابه وأهل بيته وعلى الشباب والنساء، الأمر الذي نهض بالفكر في نفوس تلك الثلة المؤمنة، وخلال ساعات قليلة، مثال ذلك موقف زوجة وهب بن حباب الكلبي، التي كانت قد طلبت منه ترك الجولة الثانية من القتال، لكنّها بعد أن رأته قد قُطعت يداه أخذت عموداً وأقبلت نحوه، وهي تقول: وهب فداك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين حرم رسول الله فقال لها: الان كنت تنهيني عن القتال: والآن جئت تقاتلين معي.
قالت: يا وهب لا تلمني إن واعية الإمام الحسين (عليه السلام) كسرت قلبي. فقال لها: ما الذي سمعت منه. قالت: يا وهب، رايته بباب الخيمة وهو ينادي: وا قلّة ناصراه! فبكى وهب بكاءاً كثيراً وقال لها: ارجعي الى النساء رحمك الله، فأبت ان ترجع ولم تطاوعه، وأخَذتْ تجاذبه ثوبه وهي تقول: لن أدعك أو أموت معك.
وأخيراً مرحلة جني الثمار وهو أمر لا يحتاج الى بيان، فإنه يشهد لنجاح المشروع الحسيني جميع الأحرار في كل زمان ومكان، مما لا يسع المقام لذكره، وكفانا له شهادة الوجدان.
فسلام على الحسين يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.