النصيحة وردت في القرآن كصفة من صفات الأنبياء والصا يلحن، ولها الفضل والدلالة على الخير، قال تعالى مخ رباً عن نبيه نوح(عليه السلام): (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) ، أي: أتحرى ما فيه صلاحكم، وقوله تعالى مخبراً عن نبيه هود(عليه السلام): (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَتِ رَبِّ وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) ؛ أي: ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، فهذه النصوص القرآنية تفيد أن النصيحة من أبلغ ما يوجهها الأنبياء (عليهم السلام) إلى قومهم، وأنها تؤتي ثمارها في حالة السلب والإيجاب بالنسبة للنصاح؛ وذلك لثبوت الأجر عند الله تعالى.
ولِمَا للنصيحة والموعظة الحسنة من مكانة عظيمة، يلتئم بها المجتمع المسلم، ويصبح مجتمعاً ربانياً، حثّنا نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: ((من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم))[1].
وعنه (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: أحبُّ ما تَعبّد لي به عبدي النصح لي[2]. وقد سمى النبي (صلى الله عليه وآله) النصيحة دِيناً، فقال (( :(صلى الله عليه وآله) الدين النصيحة))[3].
لذا كان لزاماً علينا أن نفقه النصيحة، ونفقه آدابها وضوابطها؛ حتى نتدارك بعض الأخطاء والهفوات، التي يقع فيها بعض الناصحين من الآمرين بالمعروف وغيرهم سهواً وغفلة؛ بحيث تتحول النصيحة من تغيير وإصلاح إلى تنفير، ومن صفاء إلى تعكير. فللنصيحة آداب وشروط لا بد للناصح والواعظ أن يتحلى بها؛ حتى تقع نصيحته من المنصوح موقع القبول، ومن هذه الآداب:
1- أن تكون خالصة لوجه الله تعالى وحده، بحيث لا يكون قصده الرياء ولا السمعة، ولا لتحقيق غرض دنيوي ويكون بمثابة الناصح لنفسه فعن النبي (صلى الله عليه وآله): ((لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه )).[4]
2- أن تفعل ما تنصح به الناس، وهذا من أهم آداب النصيحة، وإلا كنت من أهل قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[5] وقال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[6].
أو كنت كما قال القائل:
يا أيُّها الرجلُ المعــلّمُ غيــــره هَلّ لنفسِكَ كان ذا التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتــأتي بمثلــه عارٍ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ
ابدأ بنفسكَ فانهها عـن غيّــها فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدي بالرأي منك وينفع التعليـمُ
تصف الدواء وأنت أولى بالدوا وتعالج المرضى وأنت سقيمُ
وكذا تلقح بالرشاد عقولــــنا أبدا وأنت من الرشاد عقيمُ
3- لا ينبغي للناصح أن يظهر نقصان عقل المنصوح، والبعد عن التجريح والتأنيب وإيذاء المشاعر، وإنما يكون غرضه من النصح الإصلاح، وابتغاء مرضاة الله.
4- التثبّت وحسن الظن، فينبغي حسن الظن بإخوانه، ولا يأخذهم بالشبهة.
5- الأولى الإسرار بالنصيحة وعدم التشهير والحرص على الس رت، فالنصيحة أمام الناس توبيخ وتقريع لا يقبله الناس، فعن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): (من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه[7].
6- اختيار الوقت المناسب: لابد للناصح من اختيار الوقت المناسب الذي يسدي فيه النصيحة للمنصوح؛ لأن المنصوح لا يكون في كل وقت مستعداً لقبول النصيحة، وعدم الإلحاح في النصيحة؛ فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (كثرة النصح تدعو إلى التهمة)[8].
7- اللين في النصح: فقد أَمَرَنَا الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة والنصح، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[9] وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ))[10].
8- التدرج في النصيحة وخاصة إذا كنت تنهى عن منكر: وهذا الأدب هو من أهم فنون وآداب النصيحة، وهو مراعاة ضعف النفس البشرية خاصة إذا تعلقت بشيء وتعودت عليه فتره كبيرة من الزمن، وقد تعلمنا التدرج في الإنكار من القرآن الكريم، فلم تنزل آية تحريم الخمر دفعة واحدة، لأن ذلك سيستحيل على أهل مكة ترك الخمر لكنها تدرجت في النهي إلى أن وصلت إلى التحريم فمن فنون النصيحة والإنكار على الغير ثلاثة أمور نذكرها:
1- إظهار مساوئ الأمر الذي تريد أن تنهى عنه؛ مثلاً أن تقول: ان الفعل الفلاني يسلب التوفيق، ويجلب الفقر والهمَّ لصاحبها، ويُسبب الأمراض وغيرها من الأمور السيئة.
2- التخويف من عقاب الله تعالى يوم القيامة، من خلال ذكر بعض الآيات والروايات التي تبين عقاب مرتكب الذنوب والمعاصي يوم القيامة.
3- إظهار ثواب وفضل من ترك المعصية، ومنزلة التائب وأنَّ الله يرضى عنه ويغفر له ما مضى، ويقلب سيئته حسنات، وان الله يبدله عن لذات الدنيا بلذات الجنة.
الدين الإسلامي هو دين النصيحة، فهي من خصال الإسلام والإيمان والإحسان، ولذلك سمّي الدين النصيحة.
وقد ذكر القرآن الكريم والسنة الشريفة، إن الوظيفة الأساسية لبعثة الأنبياء (عليهم السلام) هي الدعوة إلى الله تعالى والنصح لأممهم، قال الله تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).[11]
وفي المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ((وأحب عبادة عبدي إليَّ النصيحة)).[12]
وعن تميم الداري قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة الدين ولجماعة المسلمين))[13].
وعن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال: ((يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والغيب))[14].
وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((لينصح الرّجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه))[15].
وتعتبر النصيحة من أفضل الأعمال عند الله في يوم القيامة، ففي خبر سفيان بن عُيَيْنَة قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: ((عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه))[16].
كما إن أعظم الناس منزلة يوم القيامة عند الله أكثر الناس نصيحة لخلق الله، فعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((إن أعظم النـــاس منزلة عند الله يوم القيـــامة أمشاهم في أرضه بالنصــيحة لخلقه))[17].
كما إن للمنصوح حقاً قد بينه الإمام السجاد(عليه السلام) بقوله: ((وحق المستنصح أن تؤدي إليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به))[18].
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ((لا يستغني المؤمن عن خصلة وبه الحاجة إلى ثلاث خصال: توفيق من الله عز وجل، وواعظ من نفسه، وقبول من ينصحه))[19].
وان مخالفة الناصح الشفيق الصادق المخلص في نصيحته تورث الحسرة والندامة كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): ((فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة))[20].
وعنه(عليه السلام): ((مناصحك مشفق عليك محسن إليك ناظر في عواقبك، مستدرك فوارطك، ففي طاعته رشادك وفي مخالفته فسادك))[21].
وقال النبي(صلى الله عليه وآله): ((وأما علامة الناصح فأربعة: يقضي بالحق، ويعطي الحق من نفسه، ويرضى للناس ما يرضاه لنفسه، ولا يعتدي على أحد))[22].
آداب المنصوح:
1- أوضح سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) في رسالة الحقوق حق الناصح حيث قال: ((إن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى بالصواب حمدت الله عز وجل، وان لم يوفق رحمته ولم تتهمه وعلمت أنه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك))[23].
2- عدم التكبر في قبول النصيحة.
3- عدم الإصرار على الباطل، فلا تأخذه العزة بالإثم قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[24]، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولقد وصف الله عباده المؤمنين حينما يقعون في الخطأ أنهم يستغفرون الله، فأثابهم الله جزاء ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار؛ فقال سبحانه:
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)).[25]
4- شكر الناصح، حثنا النبي(صلى الله عليه وآله) أن نقدم كلمة الشكر لمن صنع إلينا معروفًا؛ فنقول له: جزاك الله خيراً، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((من صُنِع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أَبْلَغَ في الثناء))[26].
وعنه(صلى الله عليه وآله): ((لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس))[27].
فعلى المنصوح توجيه سمعه وقلبه إلى الناصح، وإبداء السرور للناصح بنصيحته وقبولها وشكره، كما قال سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((يا أيها الناس اقبلوا النصيحة ممن نصحكم وتلقوها بالطاعة ممن حملها إليكم))[28]. فإن كل مؤمن لابد له من ناصح.
[1] الترغيب والترهيب: ج 2، ص 577.
[2] الترغيب والترهيب: ج 2، ص 577.
[3] دعائم الإسلام: ج 2، ص 47 .
[4] الكافي: ج 2، ص 208.
[5] البقرة: آية 44.
[6] الصف: آية 3.
[7] البحار: ج 75 ، ص 374.
[8] البحار: ج 72 ، ص 66.
[9] النحل: 125.
[10] الترغيب والترهيب: ج 3، ص 415.
[11] سورة النحل: 125.
[12] كنز العمال: ج3، ص413.
[13] الوسائل: ج16، ص382.
[14] الكافي: ج2، ص208.
[15] الكافي: ج2، ص208.
[16] الكافي: ج2، ص208.
[17] الكافي: ج2، ص208.
[18] الأمالي: ص456.
[19] الوسائل: ج12، ص25.
[20] نهج البلاغة: ص79.
[21] غرر الحكم: ح9839.
[22] تحف العقول: ص20.
[23] الأمالي: ص456.
[24] سورة البقرة: 206.
[25] سورة آل عمران:135-136.
[26] كنز العمال: ج6، ص523.
[27] الوسائل: ج16، ص313.
[28] عيون الحكم والمواعظ: ص552.