الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب، وفتح لهم من خزائن رحمته وَجُوده كلَّ باب، وأنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق، وطلبوا الثواب، وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته، وأضل الآخرين بعدله وحكمته: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[1]، أما بعد:
فإن الأدب عنوان فلاح المرء، ومناط سعادته في الدنيا والآخرة، وأكمل الأدب وأعظمه هو الأدب مع الله -جل وعلا- بتعظيم أمره ونهيه والقيام بحقه، ومعلوم أن لكل عبادة أدب، فالصلاة لها أدب، والحج له أدب، وهكذا، والصوم من هذه العبادات فهو أيضا له آداب عظيمة لا يستقيم إلا بها، ولا يكمل ولا تترب اثاره إلا باستحضارها.
ولعلنا نتوفق من خلال هذه الأسطر إلى تسليط الأضواء على الآداب التي ينبغي على الصائم أن يتحلى بها، والتي لو تساهل أو تهاون بها خدشت في صيامه، وأنقصت من أجره، والتي هي:
1. الاستهلال في الليلة الأولى من الشهر المبارك: فقد كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله)
يقول إذا استهل شهر رمضان بعد أن يستقبل القبلة بوجهه: (اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة، والرزق الواسع، ودفع الأسقام، وتلاوة القرآن، والعون على الصلاة والصيام، اللهم سلِّمنا لشهر رمضان، وسلِّمه لنا، وتسلَّمه منا حتى ينقضي شهر رمضان وقد غفرت لنا)[2].
2. الاستعداد لقدوم شهر رمضان المبارك استعداداً روحياً قبل أن يكون جسدياً: وذلك بمعرفة فضيلة هذا الشهر العظيم وأن فيه ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر، فعن النبي الأكرم(صلّى الله عليه وآله) في فضل شهر رمضان قال: (أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب...)[3]، وعنه(صلّى الله عليه وآله) قال الله عز وجل: (كل عمل ابن آدم هو له إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزي به)[4].
3. أن يتذكر الصائم حالة الفقراء: الذين لا يجدون ما يأكلونه بيسر في أكثر الأيام، فيحمد الله ويشكره ويهتم في مساعدتهم، فعن هشام بن الحكم، أنه سأل أبا عبد الله(عليه السلام) عن علة الصيام؟ فقال: (إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله تعالى أن يسوِّي بين خلقه، وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع)[5].
4. أن يتذكر الصائم جوع وعطش الآخرة وهول يوم القيامة: فعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: (لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعا ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب)[6].
5. تناول السحور: لقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (السحور بركة)[7]، وقال(صلّى الله عليه وآله):
لا تدع أمتي السحور، ولو على حشفة[8])[9]، أي: حتى لو على تمرة يابسة فلا يدع السحور، وحتى لو لم يكن راغباً في الطعام فليأكل استنانا بسنته(صلّى الله عليه وآله)، فيكون بذلك مثاباً مأجورا، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) ، أنه قال: (تسحروا ولو بشربة من ماء)[10]، وقال(عليه السلام): (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين، والمستغفرين بالأسحار)[11].
6. الاجتناب عن فعل المحرّمات قولاً وفعلاً: وإلا ذهب أجر صيامه ولم يحصل إلا على الجوع والعطش، قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (رُبَّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش)[12]، وعن فاطمة(عليها السلام): (ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه؟)[13]، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إذا صُمتَ فليَصُم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك، وعَدَّد أشياء غير هذا، وقال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك)[14].
7. الإكثار من تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار والصلاة على محمد وآل محمد: قال الإمام الباقر(عليه السلام): (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)[15]، وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (من أكثر فيه من الصلاة عَليَّ ثَقَّل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)[16].
8. أن يسعى الإنسان إلى إفطار الصائمين: ففي ذلك أجر عظيم، فعن رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (من فَطَّر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه)[17]، وورد عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام)
أنه قال: (من فطَّر مؤمناً كان كفارة لذنبه إلى قابل، ومن فطَّر اثنين كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة)[18]، وعنه(عليه السلام): (من فطَّر صائماً مؤمناً وكَّل الله به سبعين ملَكاً يقدِّسونه إلى مثل تلك الليلة من قابل)[19] [20]، وعنه(عليه السلام): (يا سدير، إنَّ إفطارك أخاك المسلم يعدل رقبةً من ولد إسماعيل)[21].
9. تقديم الصلاة على الإفطار: عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه سُئل عن الإفطار، أقبل الصلاة أو بعدها؟ فقال: (إنْ كان معه قوم يخشى أن يحبسهم عن عشائهم فليُفطر معهم، وإن كان غير ذلك فليُصلِّ ثم ليفطر)[22]، وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: (في رمضان تصلي ثم تفطر، إلا أن تكون مع قومٍ ينتظرون الإفطار، فإنْ كنتَ تفطر معهم فلا تُخالف عليهم، فأفطر ثم صلِّ وإلا فابدأ بالصلاة، قلتُ: ولم ذلك؟ قال لأنَّه قد حضرك فرضان: الإفطار والصلاة، فابدأ بأفضلهما، وأفضلُهما الصلاة، ثم قال: تُصلِّي وأنت صائم فتكتب صلاتك تلك فتختم بالصوم أحب إلي)[23].
10. الإفطار على أطعمة مخصوصة: قال الإمام الصادق(عليه السلام): (كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله) أول ما يفطر عليه في زمن الرطب، الرطب، وفي زمن التمر، التمر)[24]، وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: (كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله) إذا صام فلم يجد الحلو أفطر على الماء)[25]، ويستحب أن يكون الماء فاتراً[26]، فعن الإمام الصادق(عليه السلام):
(إذا أفطر الرجل على الماء الفاتر نقى كبده، وغسل الذنوب من القلب، وقوى البصر والحدق)[27].
11. الدعاء بالمأثور عند الإفطار: فعن الإمام الباقر(عليه السلام) أن رسول الله(صلّى الله عليه وآله)
كان إذا أفطر قال: (اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا فتقبله منا، ذهب الظماء، وابتلت العروق، وبقي الأجر)[28]، وفي رواية أخرى عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: (تقول في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار إلى آخره: الحمد لله الذي أعاننا فصمنا ورزقنا فأفطرنا، اللهم تقبل منا وأعنا عليه وسلمنا فيه وتسلمه منا في يسر وعافية، الحمد لله الذي قضى عنا يوما من شهر رمضان)[29]، وكذالك يستحب للصائم تلاوة سورة القدر عند إفطاره، فعن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: (من قرأ إنا أنزلناه عند فطوره وعند سحوره كان فيما بينهما كالمتشحط بدمه في سبيل الله)[30].
12. الإكثار من الصدقة: قال الإمام الصادق(عليه السلام): (من تصدق في شهر رمضان بصدقة صرف الله عنه سبعين نوعا من البلاء)[31].
[1] سورة الزمر: آية21.
[2] الأمالي، الشيخ الصدوق: ص102.
[3] المصدر السابق: ص145.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص403.
[5] المصدر السابق: ج10، ص7.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص9.
[7] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص95.
[8] يعني: التمرة اليابسة.
[9] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص94.
[10] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج93، ص312.
[11] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج7، ص356.
[12] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج1، ص72.
[13] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج93، ص295.
[14] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص87.
[15] المصدر السابق: ج2، ص630.
[16] إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس: ج1، ص27.
[17] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص314.
[18] المصدر السابق: ج10، ص141.
[19] المصدر السابق: ج10، ص314.
[20] يعني أن هؤلاء الملائكة يُسبِّحون الله عاماً كاملاً، ويكون ثواب تسبيحهم إليه، ويستغفرون له.
[21] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص69.
[22] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص150.
[23] المصدر السابق: ج10، ص150.
[24] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص153.
[25] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص157.
[26] أي: الحار الذي سكن حره.
[27] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص152.
[28] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص147.
[29] الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص95.
[30] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج10، ص149.
[31] المصدر السابق: ج9، ص404.