استخلف الله جل وعلا آدم في الأرض، وتوالت عليه نعمه الجليلة، فخلقه من عدم، ورباه بالنعم، وأسبغها عليه ظاهرةً وباطنةً، وعلّمه العلم الذي يكون به جديراً لهذا الاستخلاف، وكان من أَجلّ نعمه أن علّمه البيان ليتعامل مع غيره، ويستفيد مما خلقه الله له، فإن الإنسان تتمثل له المعاني في ذهنه، ويريد التعبير عنها فجعل له وسيلتين للبيان عما في ذهنه:
أولاهما: البيان اللفظي، فجعل له آلة اللسان التي يعبر بها عن تلك المعاني ويترجم عنها بها لغيره.
وثانيتهما: البيان الرسمي الخطيّ الذي يرسم به تلك الألفاظ فيتبيّن للناظر معانيها كما يتبيّن للسامع معاني الألفاظ، وقرّر فضل البيان في سياق نعمه التي امتنّ بها على عباده فقال: ﴿الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾[1]، وامتنّ بتعليم الكتابة والقراءة خاصة في أول سورة أنزلت على النبي(صلّى الله عليه وآله)
فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[2].
وأعظم شاهد لجليل قدرها، وأقوى دليل على رفعة شأنها، أن الله تعالى نسب تعليمها إلى نفسه، واعتدّه من وافر كرمه وإفضاله، فقال عز اسمه: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[3].
مع ما يروى أن هذه الآية والتي قبلها مفتتح الوحي، وأوّل التنزيل على أشرف نبيّ وأكرم مرسل(صلّى الله عليه وآله)، وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلها ما لا خفاء فيه.
ثم بيّن شرفها بأن وصف بها الحفظة الكرام من ملائكته، فقال جلَّت قدرته: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾[4]، ولا أعلى رتبة وأبذخ شرفاً مما وصف الله تعالى به ملائكته ونعت به حفظته، ثم زاد ذلك تأكيداً ووفّر محله إجلالاً وتعظيماً بأن أقسم بالقلم الذي هو آلة الكتابة وما يسطر به فقال تقدّست عظمته: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾[5]، والقسم لا يقع منه سبحانه إلا بشريف ما أبدع، وكريم ما اخترع: كالشمس والقمر والنجوم ونحوها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرفها ورفعة قدرها.
ثم كان نتيجة تفضيلها، وأَثَرة تعظيمها وتبجيلها، أنّ الشارع ندب إلى مقصدها الأسنى، وحثّ على مطلبها الأغنى، فقد روي عن النبي الأكرم(صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (قيّدوا العلم. قيل: وما تقييده؟ قال: كتابته)[6]، مشيراً إلى الغرض المطلوب منها، وغايتها المجتناة من ثمرتها، وذلك أن كل ذي صنعة لا بدّ له في صنعته من: مادّة جسمية يتجسد فيها عمله ويظهر فيها أثر تصويرها، وآلة يستعين بها على تصوير مراده، وغرض ينقطع الفعل عنده، وغاية تستثمر من صنعته، والكتابة إحدى الصنائع فلا بدّ فيها من الأمور الأربعة.
روي أن رجلا من الأنصار كان يجلس إلى النبي(صلّى الله عليه وآله) فيسمع منه(صلّى الله عليه وآله) الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكى ذلك إلى النبي(صلّى الله عليه وآله) فقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (استعن بيمينك. وأومأ بيده، أي: خُطّ)[7].
وعنه(صلّى الله عليه وآله): (اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء، وإنما ذهاب العلم بموت العلماء)[8].
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: (اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا)[9].
وعنه(عليه السلام) قال: (القلب يتّكل على الكتابة)[10].
وعن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): (احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها)[11].
عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله(عليه السلام): (أُكتب وبُثَّ علمك في إخوانك، فإن مُتّ فأورث كتبك بَنِيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم)[12].
وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم، إلا ناداه ربه عز وجل: جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي)[13].
وعنه(صلّى الله عليه وآله): (مَن كتب عني علماً أو حديثاً لم يزل يُكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم والحديث)[14]، هذا فضل الكتابة.
آداب الكتابة:
بعد بيان فضل الكتابة وأهميتها، كان لزاماً تبيان الآداب التي ينبغي للكاتب إتباعها وإليك أهم تلك الآداب:
1. يجب على الكاتب إخلاص النية لله تعالى في كتابته، كما يجب إخلاصها في طلبه العلم، لأنها عبادة، وأن يكون القصد من الكتابة الوصول إلى تحقيق المنفعة للدين والإنسانية ونشر العلوم الشرعية وعلوم النبي(صلّى الله عليه وآله) والمعصومين(عليهم السلام)،
خصوصاً في زمننا الحالي الذي يجب فيه على كل مسلم الاهتمام بذلك.
2. ينبغي للكاتب الطالب للعلم أن يهتم بالحصول على الكتب المحتاج إليها لأنها مصدر حصوله على المعلومات اللازمة، وفيها عصارة فكر العلماء وجهودهم.
3. من المستحب أن يكون الكاتب على طهارة أثناء الكتابة والنسخ إذا نسخ شيئاً من العلوم الشرعية أو الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
4. يبدأ الكتاب بكتابة البسملة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب)[15].
وعنه(صلّى الله عليه وآله): (من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فجوده تعظيماً لله، غفر الله له)[16].
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (لا تدع بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان بعده شعر)[17].
5. وبعد البسملة يحمد الله ويمجده بما هو أهله من الثناء، ويصلي على النبي وآله(صلّى الله عليه وآله)، فعن الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من صلى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب)[18].
ثم يختم الكتاب بالحمد والصلاة والسلام. وكلما كتب اسم الله أتبعه بالتعظيم مثل عزوجل أو تعالى أو سبحانه وكلما كتب اسم النبي(صلّى الله عليه وآله) كتب بعده الصلاة عليه وعلى آله والسلام ويصلي ويسلم هو بلسانه أيضاً.
وإذا مرّ بذكر أحد العظماء من الصحابة كتب (رضي الله عنه) أو (رضوان الله عليه)، وإذا مرّ بذكر أحد العلماء كتب (رحمه الله) أو (تغمّده الله برحمته) وإذا ذكر الأئمة كتب(عليهم السلام) أو(عليه السلام) إذا ذكر أحدهم.
6. أن يهتم الكاتب بصحة الخط وتصحيحه ويتجنب السرعة في الكتابة أو الكتابة الدقيقة (بالحروف الصغيرة) لأنه لا يكمل الانتفاع بها لمن ضعف نظره.
7. أن يختار أدوات كتابية مناسبة من أقلام ودفاتر وغيرهما مما يسهل عليه السرعة في الكتابة.
8. يراعي وجود بعض الكلمات المضافة في نفس السطر، وعدم فصلها ووضعها في سطر آخر، مثل وضع (عبد) في سطر و(الله) في سطر آخر.
9. يراعي في كتابة الآيات والأحاديث والروايات وكلام العلماء مطابقتها للأصل المنقول عنه مع ذكر المصدر بدقة.
10. يراعي تشكيل الكلمات (أي: وضع الحركات) غير المفهومة والصعبة في القراءة.
11. ينبغي أن يشير الكاتب في كتابته إلى شكه في موضوع ما يقوله (ويحتمل كذا) أو (لعله كذا). وعموماً لأي معلومة يريد ايصالها للقارئ مثلاً قوله (لمزيد من المعلومات راجع كذا)، أو (تطرق لذلك الكاتب الفلاني في كتابه) وهكذا.
12. ينبغي وضع العناوين البارزة لكل موضوع مختلف، وإن أمكن لكل معلومة مهمة، ولا يخلط الكتابة ببعضها فيصعب على القارئ الوصول إلى المقصود.
وكذلك تمييز كلمات الآيات القرآنية وتمييز كلمات الأحاديث النبوية عن غيرها من الكلمات وإن أمكن وضع الأقواس ذات الأشكال المختلفة لتمييز ذلك، وإن أمكن التمييز بالألوان المختلفة فذلك أفضل.
13. الاهتمام بغلاف الكتاب وصفحاته حتى يشوق القارىء لقراءته ويراعي أيضاً حجم الخط فلا يكون صغيراً فيصعب قراءته ولا كبيراً جداً فيكبر حجم الكتاب.
14. عدم الانقطاع عن الكتابة والتأليف، فإن في ذلك الخير والثواب العظيم.
15. يستحب عند المطالعة أن يقول: (اللّهُمَّ أخْرِجْني مِنْ ظُلُماتِ الوَهْمِ وَأكْرِمْني بِنُورِ الفَهْمِ، اللّهُمَّ افْتَحْ عَلَيْنا أَبْوابَ رَحْمَتِكَ وَانْشُرْ عَلَيْنا خَزائِنَ عُلُومِكَ بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرّاحِمينَ).
[1] سورة الرحمن: آية1- 4.
[2] سورة العلق: آية1- 5.
[3] سورة العلق: آية3- 5.
[6] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج2، ص152.
[7] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج2، ص152.
[8] كنز العمال، المتقي الهندي: ج10، ص144.
[9] الكافي، الشيخ الكليني: ج1، ص52.
[10] المصدر السابق.
[11] المصدر السابق.
[12] المصدر السابق.
[13] الأمالي، الشيخ الصدوق: ص91.
[14] كنز العمال، المتقي الهندي: ج10، ص183.
[15] المصدر السابق: ج1، ص555.
[16] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج4، ص371.
[17] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص672.
[18] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج91، ص71.