شهر رمضان المبارك والإرادة

تُعدُّ عوامل تقوية الإرادة من أهم العوامل التي يبحث عنها كلّ إنسان، ويسعى لها في كلّ الميادين، فتارةً يبحث عن تقويتها في دورات تنموية نظرية، وأُخرى يكتسب تقويتها من خلال برنامج تنموي عملي، والطريقة الأُولى لا تكاد تؤتي ثمارها بالشكلّ المطلوب ما لم تقترن بالطريقة الثانية.

ولا يقتصر كلّامنا هذا على مسألة اقتران النظرية بالتطبيق في تنمية الإِرادة وبناء الذات فحسب، بل لا تجد علماً من العلوم، ولا نظرية من النظريات، إِلا وكان هذا الشرط لازماً له، فلا تؤتي تلك النظريات دورها وثمارها إِلا بإِخراجها إِلى حيز العمل والتطبيق.

ولو تأملنا قليلاً في الأهداف والغايات التي شُرِّع من أجلها شهر رمضان المبارك لوجدنا أن هذا الشهر الفضيل هو من قبيل الطريقة الثانية التي يدخل فيها الإِنسان أَكبر دورة تطويرية وتنموية لإِرادته مدتها ثلاثون يوماً، إذ أن الإسلام حريص أشدّ الحرص على تربية الإنسان بأعلى مستويات التربية والتهذيب النفسي، فابتدع الطرق تلو الطرق، والأساليب تلو الأساليب، لأجل أن يصل الإنسان إلى كماله المنشود، وهدفه المحمود، وأهمّ ما يمكن تنميته في الإنسان ليصل إلى تلك الغايات السامية هو تنمية الإرادة وتقويتها، وجعلها هي القوّة القابضة والباسطة فينا، لأن معناها (نعم) أو (لا)، وهي القوة الكبرى التي لا بدّ أن تهيمن على مشاعر الإنسان وعواطفه وغرائزه وشهواته، لئلّا يتخلخل نظام مملكة الإنسان، ويكون الأمر بيد الشهوات والغرائز، فتأخذه ذات اليمين وذات الشمال، ويَحيد عن الصراط السويّ.

إِذاً يمكننا أن نقول: إن شهر رمضان المبارك هو من أهم الطرق والأساليب لتكوين الإرادة وتقويتها، وبيان ذلك من خلال ما يلي:

أولاً: إن الشهر المبارك هو سيلة لتقوية البعد الروحي على البعد المادي في الجسم، ويحدّ من طغيان قوى النفس الغرائزية من أنْ تكون لها السلطة على العقل والروح، فإن الإرادة عندما تستجيب لنداء السماء، وتمتثل لحكم الله تعالى باجتناب المحرمات والمفطرات، وتتحمّل الإمساك عن الطعام والشراب في شدّة الحرّ، فهو مؤشّر جيد على نشاط الإرادة بالشكلّ الصحيح، وهو تأسيس رصينٌ لبناء الروح والإرادة في وجود الإنسان، إذ أن هذا البرنامج الرمضاني يعد البذر الذي سينتج ثمره بعد حين، وهو البرنامج الذي يحرر الإنسان من قيود النفس وشهواتها، لأن البعد الروحي في الإنسان هو الذي يمثّل قيمة الإنسان لا غير، وكما قال الشاعر:

يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَـى بِخدمتِه                        أتطلبُ الربْح فيمـا فيـه خُسرانُ

أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائلَها                     فأنـتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسـانُ

ثانياً: إن البرنامج العبادي في الشهر الكريم من الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق يمثّل مقدّمة كبيرة من مقدمات التأسيس لإرادة صحيحة وقوية، لأنّ الإنسان المؤمن الذي يبرمج نفسَه على الجدول العبادي الخاص طيلة الشهر الفضيل، فإنّه يمهّد نفسه لتنمية مَلَكَة الإرادة وتقويتها وتسليطها على جميع أفكاره وقراراته، لأنّ الذي يقرّر أن يقضي ما فاته من الصلاة في ليالي وأيام الشهر المبارك، فإنّ لديه إرادة، ومن يتمكن من ختمة قرآنية واحدة أو أكثر في شهر رمضان فإن لديه إرادة، ومن يواظب على الأدعية المستحبة في أوقاتها الخاصة فإن لدية إرادة، فلو افترضنا أن المؤمن طيلة الشهر الكريم كان منتظماً في أدائه لذلك البرنامج العبادي لخرج بنتيجة إيجابية جيّدة، ولأصبحت لديه إرادة جدّية في برمجة أوقاته وأعماله وفق برنامج حياة صحيح.

ثالثا: إضافة إلى العامل المهمّ الذي يصنع المستحيل، ويكسر قيود الموانع والعقبات، وهو صناعة العلاقة الحقيقية مع المولى تعالى، لأن المؤمنَ عندما يوثق رابطته بالله عز وجل، فإنه يكتسب قوة إيمانه وإرادته منه تعالى، فقد ورد في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: (يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون)[1]، فقوّة المؤمن إذاً من قوة الله تعالى، ومنه يَستمدُّ العون، فليكنْ شهرُ الله منطلَقاً لرسم المخطّط الصحيح لحياتنا، ولتكن إرادتنا من إرادته تعالى، والله هو القوي العزيز.

المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (28)

 


[1] إرشاد القلوب للديلمي: ١: ١٥٦.