الدين شطران: أحدهما ترك المعاصي، والآخر فعل الطاعات. وترك المعاصي أشد، فإن الطاعة يقدر عليها كل واحد منا، أما ترك الشهوات لا يقدر عليها إلا الصديقون، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله): (المُهاجر مَن هَجَرَ السوءَ)[1].
وعنه(صلى الله عليه وآله): (والمجاهد من جاهد نفسه في الله)[2].
واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك، التي أنعم الله بها عليك وهي أمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران، وخيانتك أمانة اودعكها الله غاية الطغيان، وجوارحك فانظر كيف ترعاها، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
وهذه الجوارح تشهد عليك في عرصات القيامة بلسان فصيح ذلق يفضحك على ملأ من الخلق. قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[3].
وقال سبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[4] .
فاحفظ جميع جوارحك ولا تعصي الله بها، وقد بين الإمام زين العابدين(عليه السلام)
في رسالة الحقوق حقوق الجوارح السبعة وهي:
حق اللسان: (وَأَمَّا حَقُّ اللّسَان فَإكْرَامُهُ عَنِ الْخَنَى(وهو القول الفاحش)، وتَعْوِيدُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَحَمْلُهُ عَلَى الأَدَب وَإجْمَامُهُ إلاّ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا وَإعْفَاؤُهُ عَنِ الْفُضُول اُلشَّنِعَةِ الْقَلِيلَةِ الْفَائِدَةِ الَّتِي لا يُؤْمَنُ ضَرَرُهَا مَعَ قِلَّةِ عَائِدَتِهَا. وَيُعَدُّ شَاهِدَ الْعَقْلِ وَالدَّلِيلَ عَلَيْه وَتَزَيُّنُ الْعَاقِلَ بعَقْلِهِ حُسْنُ سِيرَتِهِ فِي لِسَانِهِ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ).
فاللسان، إنما خلق لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، وترشد به خلق الله إلى طريقه، وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت نعمة الله تعالى فيه.
حق السمع: (وَأَمَّا حَقُّ السَّمْعِ فَتَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ تَجْعَلَهُ طَرِيقًا إلَى قَلْبكَ إلا لِفُوهَة كَرِيمَة تُحْدِثُ فِي قَلبكَ خَيْرًا أَو تَكْسِبُ خُلُقًا كَرِيمًا فَإنَّهُ بَابُ الْكَلامِ إلَى الْقَلْب يُؤَدِّي إلَيْهِ ضُرُوبُ الْمَعَانِي عَلَى مَا فِيهَا مِن خَيْر أَو شَرِّ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ).
فاحفظ أذنك أن تصغي إلى بدعة، أو غيبة، أو فحش، أو الخوض في الباطل، أو ذكر مساوئ الناس، فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحكمة أوليائه، وتتوصل باستفادة العلم بها، فإذا أصغيت بها إلى شيء من المكاره، صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك وهذا غاية الخسران، ولا تظن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع ففي الخبر أن (المستمع شريك القائل)[5] وأن (المستمع أحد المغتابين)[6].
حق البصر: (وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ فَغَضُّهُ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ وتَرْكُ ابْتِذَالِهِ إلاّ لِمَوضِعِ عِبْرَة تَسْتَقْبلُ بهَا بَصَرًا أَو تَسْتَفِيدُ بهَا عِلْمًا، فَإنَّ الْبَصَرَ بَابُ الِاعْتِبَارِ).
فان العين، خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات، وتتعين بها في الحاجات، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسموات، وتعتبر بما فيها من الآيات، فاحفظها عن ثلاث: أن تنظر بها إلى محرم، أو إلى صورة مليحة بشهوة نفس، أو تنظر إلى مسلم بعين الاحتقار، أو تطلع بها على عيب مسلم.
حق الرجلين: (وَأَمَّا حَقُّ رِجْلَيْكَ فَأَنْ لا تَمْشِي بهِمَا إلَى مَا لا يَحِلُّ لَكَ وَلا تَجْعَلْهُمَا مَطِيَّتَكَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَخِفَّةِ بأَهْلِهَا فِيهَا فَإنَّهَا حَامِلَتُكَ وَسَالِكَةٌ بكَ مَسْلَكَ الدِّينِ وَالسَّبْقُ لَكَ، وَلا قُوَّةَ إلا بالله).
فاحفظهما أن تمشي بهما إلى حرام، أو تسعى بهما إلى باب الظالم، واستعملهما لقضاء حاجة مؤمن، أو لخلاص مسلم أو غير ذلك من المقاصد الشرعية الصحيحة.
حق اليد: (وَأَمَّا حَقُّ يَدِكَ فَأَنْ لا تَبْسُطَهَا إلَى مَا لا يَحِلُّ لَكَ فَتَنَالَ بمَا تَبْسُطُهَا إلَيْهِ مِنَ اللهِ الْعُقُوبَةَ فِي الآجِلِ، وَمِنَ النَّاسِ بلِسَانِ اللائِمَةِ فِي الْعَـاجِلِ، وَلا تَقْبضَهَا مِمَّا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تُوقّرَِهَا بقَبْضِهَا عَنْ كَثِير مِمَّا يَحِلُّ لَهَا وبَسْطِهَا إلَى كَثِير مِمَّا لَيسَ عَلَيْهَا، فَإذَا هِيَ قَدْ عُقِلَتْ وَشُرِّفَتْ فِي الْعَاجِلِ وَجَبَ لَهَا حُسْنُ الثَّوَاب فِي الآجِلِ).
فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلماً، أو تتناول بهما مالاً حراماً، أو تؤذي بهما أحداً من الخلق، أو تخون بهما في أمانة أو وديعة، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان منه.
حق البطن: (وَأَمَّا حَقُّ بَطْنِكَ فَأَنْ لا تَجْعَلَهُ وِعَاءً لِقَلِيل مِنَ الْحَرَامِ وَلا لِكَثِير، وَأَنْ تَقْتَصِدَ لَهُ فِي الْحَلالِ وَلا تُخرِجَهُ مِنْ حَدِّ التَّقْوِيَةِ إلَى حَدِّ التَّهْوِينِ وَذَهَاب الْمُرُوَّةِ، وَضَبْطُهُ إذَا هَمَّ بالْجُوعِ والظمأ فَإنَّ الشَّبْعَ الْمُنْتَهِي بصَاحِبهِ إلَى التُّخمِ مَكْسَلَةٌ وَمَثْبَطَةٌ وَمَقْطَعَةٌ عَنْ كُلِّ برِّ وَكَرَم. وَإنَّ الري الْمُنْتَهِي بصَاحِبهِ إلَى السُّكْرِ مَسْخَفَةٌ وَمَجْهَلَةٌ وَمَذْهَبَةٌ لِلْمُرُوَّةِ).
فاحفظها من تناول الحرام والشبهة، واحرص على طلب الحلال فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر على ما دون الشبع فإن الشبع يقسي القلب، ويفسد الذهن، ويبطل الحفظ، ويثقل الأعضاء عن العبادة والعلم، ويقوي الشهوات، وينصر جنود الشيطان، كل ذلك تاثير الشبع من الحلال فكيف من الحرام.
حق الفرج: (وَأَمَّا حَـقُّ فَرْجِكَ فَحِفْظُهُ مِمَّا لا يَحِلُّ لَكَ وَالاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِ بغَضِّ الْبَصَرِ - فَإنَّهُ مِنْ أَعْوَنِ الأَعْوَانِ- وَكَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوتِ وَالتَّهَدُّدِ لِنَفْسِكَ باللهِ وَالتَّخوِيفِ لَهَا بهِ، وَباللهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّأْيِيدُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا به).
فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالى، وكن كما قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾[7].
ألم أكن رقيباً عليك:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليقفنّ أحدكم بين يدي الله فيقول له: ألم أوتك مالاً؟ فيقول: بلى، ألم أرسل إليك رسولاً فيقول: بلى. ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإذا لم تجد فبكلمة طيبة، ثم يقول: يا ابن آدم ما غرك بي، يا ابن آدم ما عملت فيما علمت، يا ابن آدم ماذا أجبت الرسل، يا بن آدم ألم أكن رقيباً عليك على عينيك وأنت تنظر بهما ما لا يحل لك ألم أكن رقيباً على أذنيك وهكذا يعد سائر الأعضاء[8].
عن الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): (ليس لك أن تقعد مع من شئت لأن الله تبارك وتعالى يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وليس لك أن تتكلم بما شئت لأن الله تعالى قال: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). ولأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو صمت فسلم)، وليس لك أن تسمع ما شئت لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً))[9].