تتميّز الأَشهُر العبادية الثلاثة وهي (شهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان) بالأَجواء العبادية والإِيمانية المتميزة، حيث يعلن فيها عن بدء الموسم العبادي الخاص للمؤمنين بمجرد دخول شهر رجبٍ الأَصبِّ وثبوت هلاله، ويُؤْذِن ببدء تطبيق فقرات ذلك البرنامج العبادي الكبير، الذي جاء به رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) وأهلُ بيته الطاهرين (عليهم السلام).
وقولنا (الموسم العباديّ الخاص) لا يعني ذلك أَن العبادة والطاعة لها مواسم وأَوقات، وتخلو عن باقي الأَيام والأَوقات، كلّا، فإِن عبادة الله تعالى وطاعته لا تعرف الزَّمان والمكان، ولا تَعرِف أَوقاتاً دون أَوقات، وهي عامة تعُمّ جميع أَوقاتنا وساعاتنا، لكنّ الله تعالى جعل لها أَوقاتاً مخصوصةً، وأَيّاماً معدودةً، لأنه تعالى حباها بحبوة خاصّة، وأودع فيها إِجابةَ الدعاء، وتزايدَ الثواب، ورَفْعَ الدرجات، فهي بهذا الوصف قد تميّزت عن غيرها من الأَيام من هذه الجهة.
ولا بأس أن نشير إلى أن مقصودنا من (العبادة) هي كل عبادة شُرِّعَ استحبابها في شهر رجب الأَصب، كالعبادة البدنية مثل الصلاة المستحبّة، أَو العبادة الروحيّة كالصيام.
نعود إلى عنوان مقالتنا (رجب وتنمية الذات)، ونقول:
إن تفعيل الحالة العبادية في شهر رجب الأَصب ينتج عنها نجاحٌ على مستويين:
المستوى الأول (الفردي): ونعني به: انشراح النفس وراحتها وطمأنينتها، وهذا المستوى واضح لمن باشر العبادة وعانقها وخامرها في نفسه، فإنه يجد الراحة والسعادة والانشراح الواسع في صدره، ويلتمس الطمأنينة النفسية بداخله، وتتفتّح أَساريرُه، لأنّ العبادة في حال إقامتها بالشكل الصحيح باعثة على القرب الإلهي والزلفى لديه، وهذا بحدِّ ذاتهِ مكسبٌ كبيرٌ في سبيل علاج النفس من آلامها وكدرها.
فالعبادة إذنْ: تعمل على تطهير الذات الإِنسانية من كلّ تلك المعوّقات، وتساهم بإنقاذها من مختلف الأَمراض النفسية والأَخلاقية، وتُسهم في أَن يكون المحتوى الداخلي للفرد مطابقاً للمظهر والسلوك الخارجي، وفي تحقيق انسجامٍ كاملٍ بين الشخصية وبين القِيَم والمبادئ السامية، كما تعمل على غرس حبّ الكمال والتسامي الذي يدفع الإنسان إلى التعالي، وتوجيه نظره إلى المثل الأعلى المتحقّق في الكمالات الإلهية، لأنّ العبادة ممارسة إنسانية جادّة لإلغاء الأَنانية إلغاءً تاماً من وجود الإنسان، والتحرّر من قيودها، والخروج من سجنها الضيّق الذي يشدّ الإِنسان إِليه ويستعبده.
ومن آثار العبادة أَيضاً أَنها تُقوّي إِرادة النفس وتصلّبها في الإِيمان، فالتنازل عن لذّة النوم في ليل الشتاء البارد، والصوم في موسم الصيف الحارّ الطويل، يزيدان من قوّة الروح وصلابتها، مِمّا تُمهِّد تلك العبادات أَسبابَ الانتصار على النفس، ومن ثَمّ السيطرة على الشهوات.
وكلّ ما ذكرناه من آثار للعبادة هي عناصرٌ كفيلةٌ لتحقيق النجاح، وهي أَسبابٌ تنمّي نشاط الإنسان وحركتهِ في الحياةِ، وتصنع التفاؤل والتطلع نحو المستقبل المطلوب.
المستوى الثاني (الجماعي): وللعبادة آثار اجتماعية وأَخلاقية مهمّة، تنعكس على حياة المجتمع البشري وتؤثّر على علاقاته الإِنسانية المختلفة، فالعبادة والشعور بها، تُحرّر الإِنسان من الشهوات، ومن سيطرة حبّ المال وجمعه وتكديسه، مما يبعث في نفس الإِنسان حبّ الآخرين ومساعدتهم والاهتمام بشؤونهم، ومن ثم تكون هنالك تنمية اجتماعية، تحفِّز على النهوض بالمجتمع صوب النجاح في القضاء على أَهمّ مشاكله وهي الفقر.
والشعور بالعبودية لله يُشعر الإنسان بالمساواة والعدل بين الناس، لأَنهم جميعاً متساوون في صفة العبودية لله الواحد الأحد، لذا فإِن المجتمع الذي تسود فيه العبادة والعبودية لله لا يجد الناس فيه غاية في الحياة غير الله، ولا يملأ آفاق نفوسهم شيء غير العبودية لله، فيحطّم الناس حينذاك أصنام العبوديات المختلفة، صنم المال، والشهوة، والجاه، والسلطة، والكبرياء... إلخ، ليكونوا أحراراً كما خُلقوا.
إِذن: تنشيط العبد بالعبادة في هذا الشهر المبارك هو تنشيط لقوى الإِنسان الذهنية والبدنية، ومحاولة للأخذ به صوب النجاحات الدنيوية والأُخروية.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (26)