آداب المجلس في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

الإسلام يعتمد في نهجه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء، وقد شملت تعاليمه جميع جوانب الحياة، بحيث لم تترك هذه التعاليم فضيلة من الفضائل ألا دَعَتْ إليها وحثّت على التمسك بها، ولم تدع في نفس الوقت أي رذيلة من الرذائل ألا نبّهت عنها وعن أخطارها وأمرت بالابتعاد عنها،حتى غدت حياة الإنسان منظمة وفق قانون إلهي محكم ودقيق، وتحتوي رسالة الإسلام على حب العقيدة والإيمان والسلوك والأخلاق، وهدفها الأول والأساس هو تربية النفوس تربية قويمة، وتنشئتها على مبادئ الحق والخير، وتكوين المجتمع القوي الذي بتمسّك بهذه المبادئ والأسس.

والأخلاق أهمّ عنصر في تكوين الفرد المثالي والأسرة السليمة، والمجتمع الراقي والدولة المتقدمة، ومن أجل ذلك حرص الإسلام أشدّ الحرص على إعداد المجتمع وتهذيبه، فالأخلاق الفاضلة هي التي تعصم هذه المجتمعات من الانحلال، وتصون الحضارة والمدنية من الضياع، ومن دونها لا تنهض الأمم ولا تقوى إلا بها.

يبقى العلم والأخلاق دعامتان من الدعائم الأساسية التي لا تستغني عنها جميع الأمم والشعوب، وهكذا فان أهم دور للتربية الأخلاقية في نظر الإسلام يمكن تحديده بصورة إجمالية في كونها الوسيلة الوحيدة لبناء خير فرد وخير مجتمع وخير حضارة.. وهكذا نجد أن الغاية القصوى من الدين الإسلامي قد حددها الرسول الكريم(صلّى الله عليه وآله) بقوله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[1]. وهذا الحديث يؤكد أن الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قد ساهموا في بناء الصرح الأخلاقي، وأنه(صلّى الله عليه وآله) جاء بعدهم ليتمم عملية البناء الأخلاقي والتي توارثها الأنبياء من قبله.

ومن تلك الآداب التي حث عليها الإسلام والتي ينبغي الالتفات إليها والالتزام بها، آداب المجلس والتي لو التزم بها الإنسان لعرف الخير في الدنيا قبل الآخرة.

قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ[2].

ونشير هنا إلى بعض هذه الآداب:

1. أين تجلس؟

هناك العديد من الروايات التي تتحدث عن المكان الذي ينبغي أن يجلس فيه الإنسان وتحددها ضمن أطر ثلاثة:

أ- المكان الذي دعيت إليه: فعن رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا رجل أخاه وأوسع له في مجلسه فليأته، فإنما هي كرامة أكرمه بها أخوه...)[3].

فإذا أوسع لك أي شخص في المجلس ودعاك للجلوس بجانبه فهذه كرامة لك أكرمك بها هذا الإنسان وعليك أن تمتثل لهذا الطلب وتقبل هذه الكرامة. فليس من الأدب أن يعتني بك أحدهم فتقابل عنايته بالرفض وبعدم الاهتمام واللامبالاة.

ب- المكان الأوسع: ففي تتمة الرواية عن رسول الله‏(صلّى الله عليه وآله): (... وإن لم يوسع له أحد فلينظر أوسع مكان يجده فيجلس).

ففي الحالات العادية التي لا يوسع لك أحدهم ويدعوك إلى جانبه عليك أن تختار أوسع مكان تجده في المجلس حتى لا يكون جلوسك فيه تضييقاً أو أذية لأحد من الجالسين.

ج- ما انتهى بك المجلس: فعن رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيثما انتهى به مجلسه)[4].

وفي هذا تعليم منه(صلّى الله عليه وآله) لنا أن لا نسعى لمواقع الرئاسة ولا للمناصب والوجاهة والظهور، بل حثّاً منه على أن نشعر أنفسنا بالتواضع وأننا كالآخرين ولسنا أرفع منهم جاهاً بل التفاضل بالتقوى فقط لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[5].

د- لا تسرع إلى صدر المجلس: قد يتساءل البعض لما التشدّد في هذا الأمر؟ فإذا كان المكان فارغاً فليجلس الشخص حيثما يريد... ولكن الأمر ليس لأجل المكان الفارغ أو عدمه بل هذا دفعاً عن المؤمن كي لا يتعرّض للمقت أو الإهانة، لأن أصحاب المجالس قد يخصّصون مجلساً خاصاً لأحد ما قد يكون عزيزاً عليهم، ولا يرضون بجلوس آخر مكانه، فيطلبون منه التنحّي وقد يعتبرها الشخص إهانة له، فيلزم للمؤمن أن لا يسرع لصدر المجلس الذي قد يكون مخصصاً لشخص آخر غيره.

وقد ذكر هذا المعنى على لسان الإمام علي‏(عليه السلام)  حينما قال: (لا تُسرعنَّ إلى أرفع موضع في المجلس، فإن الموضع الذي تُرفع إليه خير من الموضع الذي تحُطُّ عنه)[6].

هـ- لمن صدر المجالس؟: خصّصتْ الروايات صدر المجالس بأناس محدَّدين، ولصدر المجلس علاقة بموقعهم الريادي في المجتمع، كالعالم، والناصح والمُحدَّث، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل، وينطق إذا عجز القوم، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه شي‏ء منهن فجلس فهو أحمق)[7].

2. عدم مضايقة الجالسين‏:

ومثاله أن يجلس شخص ما موسّعاً ما بين قدميه، بحيث يأخذ مكان شخصين بدل شخص واحد، ولا سيما مع ضيق المكان، ولربما لا يعترض الجالسون عليه، ولكنهم بلا شك سيمتعضون منه ومن أخلاقه، وقد حذرنا الرسول الأكرم‏(صلّى الله عليه وآله) من هذا التصرف الشائن، فقد روي عنه(صلّى الله عليه وآله): (ولا تفحش في مجلسك؛ لكي يحذروك بسوء خلقك، ولا تَناجَ مع رجل وعندك آخر)[8].

وهذا التصرف عادة ما ينشأ من الأنانية، وحب الذات، وعدم الالتفات لحقوق الآخرين، فينبغي للمؤمن أن يؤدّب نفسه على الالتفات لراحة إخوانه المؤمنين.

3. إفساح المجال‏:

وإذا ضاق المكان وجاء من يريد المشاركة في المجلس، فينبغي إفساح المجال له ليتمكن من الجلوس، قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا...[9].

4. التزحزح:‏

والتزحزح من اللياقات العرفية المشهورة والمعروفة، وهو دال على الاحترام والتوقير للآخر، وقد كان التزحزح من خلق رسولنا الأكرم(صلّى الله عليه وآله)، فقد روي أنه دخل على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) شخص وهو في المسجد جالساً لوحده فتزحزح له الرسول(صلّى الله عليه وآله)، فقال له: في المكان سعة يا رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، فقال(صلّى الله عليه وآله): (إن حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له)[10].

5. عدم مدّ الرجلين:‏

ومد الرجلين من الأمور الدالة بحسب العرف على احتقار الآخر، وعدم احترامه، وهي بالتالي منافية للأخلاق، وقد روى الإمام علي(عليه السلام)  في أوصاف رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (وما رؤي مقدّماً رجله بين يدي جليس له قط)[11]. فعلينا التأسي بأوصافه تلك وأخلاقه الحميدة.

6. التبسم في وجه الآخرين:‏

قد يتصور بعض البعيدين عن الروايات والمفاهيم الإسلامية الصحيحة أن من صفات المؤمن أن يكون عبوس الوجه، شارد الفكر، لا يُقبِل على الآخر إلا بالدعوة له، وغير ذلك من الصفات... إلا أن الواقع وما ذكرته الروايات من صفات المؤمن عكس ذلك تماماً، فالروايات تؤكد أن المؤمن يلاقي الآخرين بوجه بشوش مبتسم، فعن إسحاق بن عمار قال: قال الإمام الصادق(عليه السلام): (يا إسحاق: صانع المنافق بلسانك، وأخلص ودّك للمؤمن، فإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته)[12].

وروي عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (ثلاث يصفين ودّ المرء لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه، ويوسّع له في المجلس إذا جلس إليه، ويدعوه بأحب الأسماء إليه)[13].

7. الصمت:

بمعنى عدم الاستعجال في الحديث والانجرار وراء اللسان، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (لا تحدّث الناس بكل ما سمعت به، فكفى به كذباً)[14]. فينبغي أن يكون اللسان تابعاً للعقل لا العكس، وإلا فالصمت أفضل، كما تشير الكثير من الروايات، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: (صمت يكسوك الكرامة خير من قول يكسبك الندامة)[15].

ولا يعني ذلك أن يبقى الإنسان في كل المجالس صامتاً، بل المراد أن يتكلم بما ينفع إذا اقتضت طبيعة المجلس الكلام.

ومن ثمار الصمت أن الإنسان الصامت عن ما لا يعنيه يورثه الله الحكمة، فعن الإمام الرضا(عليه السلام): (إن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة، إنه دليل على كل خير)[16].

8. عدم مقاطعة المتكلمين‏:

إن مقاطعة المتكلمين من العادات السيئة، المنافية للآداب، والتي كثيراً ما يسهو الإنسان فيقع فيها، ولاسيما في مجالس الحوار والنقاش، حيث يكون أحد الجالسين متكلماً فيقطع كلامه، ويأتي آخر لقطع كلام الثاني، وهكذا، إلى أن يصبح المجلس مجلساً للهرج والمرج، لا تفهم من أحدهم كلمة، ناسين قول سيد الكائنات(صلّى الله عليه وآله): (من عرض لأخيه المسلم المتكلم في حديثه فكأنما خدش وجهه)[17].

9. عدم التناجي بالسر:

ومن أدب المجالس عدم التناجي، وهو أن يهمس أحد الجالسين في أذن الآخر بحديث خاص به دون الجالسين، فإن ذلك يؤذيهم، فإذا كان هناك ثلاثة، فلا يتَناجَ منهم اثنان دون الثالث، فإن ذلك مما يؤذيه ويسي‏ء إليه، وقد نهت عن ذلك الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، فعن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): (إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى منهم اثنان دون صاحبهما، فإن في ذلك ما يحزنه ويؤذيه)[18].

10. حفظ السر:

إن ميل الإنسان نحو المباهاة، وإظهار المعرفة، وامتلاك الأسرار، قد يدفعه لإفشاء كل أمر يعرفه، والتحدث فيه، وإشاعته، سواء كان مهماً، أو وضيعاً خطيراً أو، ضئيلاً، فيصبح كثير الكلام، لا يمكن ائتمانه على سر، أو حديث،
أو مجلس... فعن النبي الأكرم(صلّى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: (يا أبا ذر: المجالس بالأمانة، وإفشاء سرّ أخيك خيانة، فاجتنب ذلك)[19]. وفي هذه الرواية يؤكد النبي الأكرم(صلّى الله عليه وآله) على خطورة إفشاء الأسرار، وإذاعة كل ما يحصل في المجالس، فقد يذكر المؤمن بعض الأمور في مجلس ولا يحب ذكرها في مجلس آخر،
لذلك فإن ما تسمعه في مجلس ما، يتحول إلى أمانة أنت مسؤول عنها، وينبغي عليك مراعاتها، وعدم جعلها مادة للحديث والتسلية أينما كان، وكثيراً ما يُسِرَّ لك أخوك المؤمن بأخباره وآرائه، ويظهر لك ما لا يظهره لغيرك لثقته بك، فعليك أن تثبت أنك أهل لهذه الثقة من خلال حفظ هذه الأمانة، وعدم إشاعتها بين الناس.

ومن أسوأ ألوان خيانة المجالس ما إذا كان الإنسان حريصاً على تتبع العيوب والأسرار، وإفشائها بقصد الإيذاء، والتشهير، والخيانة، فعلى المؤمن:

أولاً: أن يكون حريصاً على عدم نبش الأسرار واكتشافها والترفع عن استخدام تلك الوسائل الوضيعة التي لا تليق بمقام المؤمن.

ثانياً: أن يكون أميناً في المجالس فعندما تذكر أمامه أسرار الآخرين لا يستحسن كشفها، وعليه ألا يظهرها ولو طلب منه ذلك.

 


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج16، ص210.

[2] سورة المجادلة: آية11.

[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج12، ص109.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج16، ص240.

[5] سورة الحجرات: آية13.

[6] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: ص522.

[7] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج1، ص141.

[8] المصدر السابق: ج67، ص248.

[9] سورة المجادلة: آية11.

[10] مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي: ص25.

[11] المصدر السابق: ص23.

[12] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج12، ص201.

[13] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص643.

[14] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص759.

[15] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: ص302.

[16] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص113.

[17] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج12، ص106.

[18] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص660.

[19] مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي: ص470.