اعلم إنّ للإنسان في علمه أربعةَ أحوال، كحاله في اقتناء الأموال، إذ لصاحب المال: حال استفادة فيكون مُكتسِباً، وحال ادّخار لما اكتسبه فيكون به غنيّاً عن السؤال، وحال إنفاق على نفسه فيكون به منتفِعاً، وحال بذل لغيره فيكون به سخيّاً متفضّلاً، وهو أشرف أحواله.
كذلك العلم يُقتنى كالمال، فله حال طلب واكتساب، وحال تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكَّر في المحصّل والتمتّع به، وحال تبصير وهو أشرف الأحوال، فمن عَلِم وعَمِل وعَلَّم فذلك الَّذي يدعا عظيماً في ملكوت السماوات، فإنّه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة، وكالمسك الَّذي يُطيِّب غيره وهو طيّب، والَّذي يَعلَم ولا يعمل به كالدفتر الَّذي يفيد غيره وهو خال عن العلم، وكالمِسَنّ الَّذي يشحذ غيره وهو لا يقطع، والإبرة الَّتي تكسو غيرها وهي عارية، وذبالة المصباح تضيء لغيرها وهي تحترق، وفي مثله قيل:
وما هو إلا ذبالة[1] وقدت تضيء للناس وهي تحترق
ومهما اشتغل بالتعليم فقد تقلَّد أمراً عظيماً وخطراً جسيماً فليحفظ آدابه ووظائفه، ومن تلك الآداب:
1. أن يُخلِص عمله لله عزّ وجلّ وأن يتحلى بالصفات الأخلاقية الحميدة، لأنه قدوة ومَثَل للآخرين.
2. أن يكون المُعلِّم ناصحاً للمتعلِم متكلّماً معه باللين والحكمة، يُجيب على إشكالاتهم، لكي يرغبوا في العلم، ولا يتعامل معهم بالغلظة ولا بالتعنيف ولا بالتحقير.
3. أن يكون العالم متواضعاً مع مَن يُعلِّمهم ولا يأخذه العُجب بعلمه، فكل ذلك من فضل الله عليه وهو الذي أعطاه القدرة على العلم والفهم، وقد قيل: (إذا علمت فلا تفكر في كثرة مَن دونك مِن الجهال ولكن أنظر إلى مَن فوقك مِن العلماء).
4. أن يقول ما يعلَم ولا يتكلّم في ما لا يعلم، حتى يرجع إليه ويتعلمه.
5. أن يبذل العلم لأهله ولا يبذله لغير أهله، فهناك مِن الناس مَن لا ينفع معهم العلم.
6. أن لا يستحي العالم من قول: (لا أدري) أو (لا أعلم)، فمهما بلغ من العلم والفهم فهناك الكثير من العلم الذي لا يفهمه، وإذا ترك العالم قول: (لا أدري) هلك.
7. أن لا يستنكف العالم من تَعلُّم ما ليس عنده، وقد قيل: تَعلّمْ عِلمَ غيرك وعَلِّمه لغيرك، فيكون قد أجَدْتَ علمك وعَلِمتَ ما لم تعلم، وأن لا يقنع العالم بما أدرك منه العلم، ويستمر في البحث والدراسة والتعلم، فكل يوم هناك علم جديد.
8. أن يركّز العالم على علوم الفقه، فلا خير في عبادة ليس فيها تفقه.
9. أن يكون من شيمة العالم العمل بما يعلم، وحث النفس على أن تأتمر بما تؤمر، فخيرٌ من القول فاعِلُه، وخيرٌ من العلم حامِلُه، وخيرٌ من الصواب قائِلهُ، فثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه.
10. أن يعلّم العالم الناس ما ينفعهم في آخرتهم، فخير العلم ما نفع وخير القول ما ردع.
11. أن لا يبخل العالم بتعليم ما يحسن من العلوم، فالله عزّ وجلّ أعزّهم بالعلم ومكّنهم منه، فكيف يبخلون على عباده أن ينفعوهم به، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)[2]، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (مَنْ كتم علماً فكأنه جاهل)[3]، وقال أحدهم إني لأفرح بإفادتي المتعلم أكثر من فرحتي باستفادتي من المعلم.
12. على المعلم أن يُشوِّق المتعلمين إلى حبّ العلم بتبيين فوائد طلب العلم لهم في الدنيا والآخرة.
13. وليعرف العالِم أنه بتعليمه الآخرين فإن في ذلك الأجرَ والثوابَ له، فالتعليم صدقة لهم، وفيه أيضاً زيادة في حفظه لهذه العلوم وإتقانه بسبب تكرارها.
14. أن يهتمّ العالِم بكل المتعلمين، ولكن يركز على مَن همُّه أخرته وهمُّه خدمة الآخرين وخدمة الدين.
15. ينبغي للعالِم أن يعرف أحوال الدارسين عنده فلا يكلّفهم أكثر من طاقتهم ويعطيهم ما يتحمّلونه.
16. أن يوجه العالم مَن يُعلّمهم إلى الطريق الحق دائماً ولا يخاف في الله لومة لائم، فهو قدوتهم وهو مثلهم في الحياة.
نصائح للمعلم والمتعلم:
* قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (لِينوا لمن تُعلِّمون، ولمن تتعلمون منه)[4].
* وعنه(صلّى الله عليه وآله): (تعلّموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يُقوَّم علمُكم بجهلكم)[5].
* وعنه(صلّى الله عليه وآله): (من استقبل العلماء فقد استقبلني، ومن زار العلماء فقد زارني، ومن جالس العلماء فقد جالسني...)[6].
* وعنه(صلّى الله عليه وآله): (ينبغي للعالم أن يكون قليل الضحك، كثير البكاء، لا يمازح، ولا يصاخب، ولا يماري، ولا يجادل، إن تكلّم تكلم بحق، وإن صمت صمت عن الباطل، وإن دخل دخل برفق، وإن خرج خرج بحلم)[7].
* وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (مِن حق العالم عليك أن تُسلّم على القوم عامة وتخصَّه دونهم بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغمزن بعينيك، ولا تقولنّ: قال: فلان، خلافاً لقوله...)[8].
* وعنه(عليه السلام): (على المتعلّم أن يدأب نفسه في طلب العلم، ولا يملّ من تعلّمه ولا يستكثر ما علم)[9].
* وعنه(عليه السلام): (لا يُحرِز العلم إلا مَن يطيل درسه)[10].
* وعنه(عليه السلام): (من أكَثر الفكر فيما تعلم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم)[11].
* وعنه(عليه السلام): (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحق بالإجلال من معلّم الناس ومؤدبهم)[12].
* وعن الإمام زين العابدين(عليه السلام): (أما حقّ رعيتك بالعلم، فأن تعلَم أن الله عزّ وجلّ إنما جعلك قيّماً لهم فيما آتاك الله من العلم وفتح لك من خزائنه، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله، وإن أنت منعت الناس علمك، وخرقت بهم عند طلبهم العلم منك، كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من القلوب محلك)[13].
* وعنه(عليه السلام): (وحقّ سائسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدواً، ولا تعادي له ولياً، فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة اللّه بأنك قصدته وتعلمت علمه للّه جل اسمه لا للناس)[14].
* وعن الإمام الباقر(عليه السلام): (جاء رجل إلى النبي(صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله ما حق العلم؟ قال: الإنصات له، قال: ثم مه؟ قال: الاستماع له، قال: ثم مه؟ قال: الحفظ له، قال: ثم مه؟ قال: ثم العمل به، قال: ثم مه؟ قال: ثم نشره)[15].
وأخيرا أقول ما قاله الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكــــرما
فاصبر لدائك إن أمنت طبيبه واصبر لجهلك إن جفوك معلما[16]
[1] الذبالة: فتيلة السِّراج.
[2] سورة البقرة: أية159.
[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي:ج2، ص67.
[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج2، ص62.
[5] المصدر السابق: ج2، ص37.
[6] كنز العمال، المتقي الهندي: ج10، ص170.
[7] المصدر السابق: ج10، ص243.
[8] المصدر السابق: ج10، ص255.
[9] غرر الحكم، الآمدي: ص43، ح96.
[10] المصدر السابق: ص49، ح275.
[11] المصدر السابق: ص57، ح572.
[12] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج2، ص56.
[13] المصدر السابق: ج2، ص61.
[14] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج2، ص42.
[15] المصدر السابق: ج2، ص28.
[16] منية المريد، الشيخ زين الدين بن علي المعروف بالشهيد الثاني: ص247.