تتعدّد الآراء والمواقف الفردية والجماعية تبعاً للموروث الثقافي والفكري، الذي يحيط بها، وقد تتبنى بعض الآراء ثُلّة قليلة من مجتمع ما، فحينئذٍ ليس من الصحيح وصفُهم جميعاً بذلك الرأي، بل تقتضي الموضوعية الإشارة إلى تنوّع الرأي لديهم، والى النسبة التي تتبنّى ذلك الرأي.
وثقافة الموضوعية والتمييز في طرح الآراء والأحكام، ليست ثقافة جديدة، ولا هي حالة عصرية مخترعة، بل هي مفهوم قرآني، ودرسٌ إلهيٌ بخصوص هذا الموضوع، وتجنّب التعميم والتنميط في تقويم المجتمعات الأخرى، فقد ذكر القرآن الكريم ظاهرة سلبية كانت عند بعض يهود يثرب، وهي عدم حرمة أموال الآخرين عندهم، فيذكر القرآن الكريم إن هذه الصفة ليست سمة عامة عند اليهود، وهو قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً... )[1].
فالقرآن الكريم ترفّع عن أسلوب التعميم، وكثيراً ما يستعمل أسلوب التبعيض في حكايته عن صفات المجتمعات كقوله تعالى: (... نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ...)[2].
وقوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ...)[3].
هكذا يربّينا القرآن الكريم على الموضوعية في النظر للآخرين وتقويم أحوالهم، بعيداً عن أسلوب التعميم، والتنميط الخاطئ، والذي لا تحصل منه إلّا قراءة مبتورة.
إمكان تحديث الرأي والسلوك:
إنّ المدارس والمذاهب الفكرية، ليست قوالب توقيفية ساكنة، بل كثيراً ما يحصل التغيير والتطوّر في الآراء الفكرية وحتى الفقهية، وعند القراءة لأي مدرسة أو مذهب ينبغي أخذ هذا المبدأ بعين الاعتبار، ولا يصُحّ لنا استصحاب الآراء والمواقف التاريخية كأمر حتمي.
في إحدى المؤتمرات الذي انعقد في الكويت تحت عنوان (الجماعات الإسلامية وأثرها في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط) ناقش أحد الأمريكيين المشاركين عن موقف الإسلاميين من المرأة مستشهداً بكلام لأبي حامد الغزالي (المتوفى 505هـ) فيه نوع تشدّد، قال له أحد الحاضرين: لسنا ورثة فكر الغزالي بل نحن منتجون في فكرنا غاية الأمر أن لنا إطاراً عاماً واسعاً نتحرك داخله، فنحن نضمن حقوق المرأة وندعو الى مشاركتها الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية ما استطاعت ذلك.
الخطأ في هذه الحادثة، أن هذا الأمريكي لم يطّلع إلّا على موقف كان قبل 1000 عام تقريباً، فسحبه إلى ثقافة هذا اليوم فأين الموضوعية والعلمية في الرأي.
وفي الواقع إن تراثَنا وتاريخنا فيه نزاعات ومواقف عدائية تجاه بعضهم البعض، نتجت عن سياسات الحكام ومصالحهم، لكنا نشهد أن علماءنا قد تجاوزوا الكثير من تلك الآراء والمواقف المتشدّدة، واستنكروا نبش ما تناثر من الآراء الواهية، وتسويقها للأجيال المعاصرة.
عوامل مساعدة لقراءة الآخر:
أولا: نشر الوعي والثقافة، وترك أسلوب التلقين وتوارث المواقف تجاه الآخر، خصوصاً مع توفر وسائل المعرفة والتواصل الثقافي والمعرفي بيسر وسهولة.
ثانياً: نحتاج إلى مؤسسات أهلية أو غير أهلية تقوم بدور التعارف والتعريف بين التوجهات والمدارس الفكرية، وتقويم ثقافة الانطواء والاعتداد بالرأي الذي دمّر البلاد.
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (30)