التعامل مع الأجير وآدابه

لقد جاء الإسلام بتعاليمه الكريمة ومبادئه العظيمة، فمن أخذ بها عز في دنياه، وفاز في أخراه، وجعل الإسلام أساس تعاليمه العدل.

فالعدل هو مصدر الأمن والاستقرار في الأرض، وهو مصدر ضمان الحقوق واطمئنان النفوس.

وبالعدل يعمر الكون، وعليه قامت السماوات والأرض، وبالعدل رست لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم ولكل أمة قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل ولا تتأثر بالأهواء، ولا بمودة ولا بغضاء، لا تتغير مجاراةً لقرابة أو مصاهرة أو قوة أو ضعف أو غنى أو فقر، إنما تكيل وتزن للجميع بمكيال واحد، وهو العدل.

ومِن خُلُق المؤمن الوفاء بالعهودِ، والالتزام بالعقود قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[1].

وقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعون[2]، وفي الحديث القدسيّ: (يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّماً، فلا تظالموا)[3].

واقتضت حكمة الله أن يفاوِت بين الناس، ويجعلهم على طبقات: شريف ووضيع، غني وفقير، رئيس ومرؤوس، عالم وجاهل؛ ليحتاجَ الناس بعضهم إلى بعض، قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا[4].

يقول المفسرون: أي: ليتسخَّر بعضهم لبعض في الأعمال والحرف والصنائع، فيحصل بينهم تآلف وتضامّ ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع، ولا لنقص في المقتر، فلو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم لبعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم.

وإن من صور العدل الواضحة إنصافَ الأجير، ورعاية حقه كإنسان يحسّ ويشعر ويتألّم كما تتألم، ولهذا فقد رسم لنا ديننا طريق التعامل مع الأجراء، وأوضحها أيما إيضاح، بل إنه لا يخلو كتاب فقهيّ من باب عقد في بيان أحكام الإجارة والأجير وقد شدد عزّ وجلّ في حقوق العباد فالذنوب المتعلقة بالله عز وجل، يكفي فيها الاستغفار؛ ولكن ما يتعلق بالعباد، فلابد من إرضاء الخصوم.

وهناك قواعد عظيمة رسمها لنا ديننا في التعامل مع الأُجراء:

أولاً: حينما يتعاقد شخص مع آخر على عمل معيّن فلا بد من تحديد نوع العمل وساعاته ومقدار الأجرة قبل البدء في العمل، فهذا نبيّ الله موسى(عليه السلام)  لما ذهب إلى النبي شعيب(عليه السلام) قال له: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّالِحِينَ[5]، فحدّد له الأجرة وبيّن له العمل.

وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إذا استأجر أحدكم أجيراً فليعلمه أجره)[6].

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيراً حتى يعلم ما أجره)[7].

ثانياً: عدم ظلم الأجير أو العامل في أجرته التي يستحقها.. فبعض الناس يرى أن الطرف المقابل لا ناصر له، ولا كفيل له، ولا وكيل له؛ فيساعده هذا الأمر على تجاوز الحدود.. والحال أنّ الروايات في هذا المجال مخيفة، وانتقام رب العالمين كبير ممن يظلمون الأجير أجرته، قال الله عزّ وجلّ في حديث قدسي: (ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ)[8].

-(ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، إذا كان الله عزّ وجلّ هو الخصم، فليتصور الإنسان ثقل القضية، وعظمة الموضوع.

-(وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ)، أي أخذ منه ما يريد.

-(وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ)، عدم إعطاء الأجر يكون: إما بعدم إعطائه الأجر مطلقاً، أو بعدم إعطائه الأجر كاملاً، واقتطاع جزء منه.. ويتعذّر بأعذار واهية غير مقنعة، كي لا يعطي الأجير أجرته.

وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إن الله تعالى غافر كل ذنب، إلا رجل اغتصب أجيراً أجره، أو مَهَرَ امرأةً)[9].

وعنه(صلّى الله عليه وآله): (من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرم عليه ريح الجنة، وان ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام)[10].

وعن الأصـبـغ بن نباتة: كنت جالسا عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في مسجد الكوفة، فأتاه رجل من بجيلة يكنى أبا خديجة قال: يا أمير المؤمنين، أعندك سر من سر رسول الله(صلّى الله عليه وآله) تحدثنا به؟

قال(صلّى الله عليه وآله): (نعم، يا قنبر ائتني بالكتابة، ففضها، فإذا في أسفلها سليفة مثل ذنب الفأرة، مكتوب فيها بسم الله الرحمن الرحيم، إن لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من انتمى إلى غير مواليه، ولعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من أحدث في الإسلام حدثنا أو آوى محدثا، ولعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من ظلم أجيرا أجره)[11].

ثالثاً: يعطى الأجير حقه كاملاً بدون نقص إلا إذا كان الأجير مقصراً بشكل واضح في عمله ومع هذا يحاول صاحب العمل أن يرضيه.

رابعاً: إعطائه أجرته في الحال وعدم المماطلة: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)[12].

خامساً: معاملة العمال بالعطف والرحمة، وأن لا يكلفه فوق طاقته.

ما يجب على العامل:

وفي المقابل يجب على العامل أن يخاف الله، ويحترم العقد، ويعمل على مضمونه، وذلك من خلال:

1. الإلتزام بمواقيت العمل، والمحافظة  على ساعاته.

2. أن لا يخون صاحبه فيأخذ من ماله أو بضاعته أو صناعته شيئاً إلا بإذنه.

3. الحرص على إتقان العمل، وليراقب ربه في عمله، وإن كان في غياب صاحب العمل.

4. المحافظة على معدات العمل وآلاته، وأن لا تستخدم هذه المعدات في أغراضه الخاصة.

5. المحافظة على كتمان أسرار العمل إن كان له أسرار.

6. وليحذر من العمل الإضافي في أوقات العمل ما لم يكن بإذن صاحب العمل.

التعويض وتدارك ما فات:

إن الإنسان الذي تراكمت عليه تبعات مالية للآخرين، هناك طريقان لتدارك الأمر:

الطريق الأول: دفع الحقوق إلى أهلها إن كان يعلم أصحاب هذه الحقوق، وعليه بإرجاعها لهم، ولو بواسطة، إن كان لا يحب أن يفضح سره، ويطلب من ذلك الشخص إبراء ذمته.

الطريق الثاني: إبراء الذمة... إن الإنسان الذي يكون في ذمته مبلغ من المال لأجير ولا يستطيع الوصول إليه، وانقطعت أخباره؛ فعليه أن يدفع هذا المبلغ للمجتهد الذي هو وكيل الإمام(عليه السلام)، بعنوان: «أموال مجهولة المالك»؛ فهو بذلك يكون قد أبرأ ذمته... وحتى الذي لا يتذكر ما له وما عليه، عندما يخمس ماله، ليضع عليه مبلغاً بعنوان: «رد المظالم، ومجهول المالك»؛ فهذا أمر حسن، في كل عام يحاول أن يصفي حسابه مع الخلق أولاً بأول؛ لئلا تتراكم التبعات.

فالحذر الحذر من الغفلة، وعدم المراقبة في جميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، فإنكم ستلاقون يومًا وصفه الله بقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[13].

 


[1] سورة المائدة: آية1.

[2] سورة المؤمنون: آية8.

[3] كنز العمال، المتقي الهندي: ج15، ص924.

[4] سورة الزخرف: آية32.

[5] سورة القصص: آية27.

[6] كنز العمال، المتقي الهندي: ج3، ص906.

[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج19، ص105.

[8] كنز العمال، المتقي الهندي: ج16، ص28.

[9] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج14، ص31.

[10] الأمالي، الشيخ الصدوق: ص513.

[11] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج14، ص30.

[12] كنز العمال، المتقي الهندي: ج3، ص906.

[13] سورة الأنبياء: آية47.