شروط قيام الدعوة وإسماع صوتها

الثالث: أن كل دعوة لا تنهض بنفسها وتقوم على ساقها، بحيث يسمع صوتها، ويُتعرف عليها، ويُعلم أنها على حق أو باطل، إلا بأن تتبناها جماعة معتد بها تدعو إليها وتسعى في نشرها والتعريف بها.

وهذه الجماعة طبيعياً على أقسام ثلاثة:

أولها: أهل البصائر الذين يتبنونها بإصرار ويثبتون عليها ويضحّون في سبيلها مهما كلفهم ذلك، ويصمدون أمام المغريات والمثبطات مهما بلغت من قوة وعنف.

ثانيها: من يقتنعون بها كحقيقة ثابتة، قناعة تامة، وقد يضحّون في سبيلها. لكنهم كثيراً ما ينهارون أمام المغريات والمثبطات، فيخذلونها أو يتخلون عنها، بل قد ينقلبون عليها، ويجدّون في محقها.

قال الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ)[1]. وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )[2]. وشواهد ذلك في الدعوات الدينية وغيرها كثيرة لا تحصى.

ثالثها: المنافقون والانتهازيون الذين لا يؤمنون بالدعوة، بل همّهم من أول الأمر مصالحهم أين كانت. وهم قد يتربصون بالدعوة الدوائر، فيحرفونها من أجل مصالحهم وأطماعهم، أو ينقلبون عليها علناً إذا لم تخدم مصالحهم أو صارت ضدها.

و من الظاهر أن القسم الأول أقل القليل. وهم لو بقوا لوحدهم أعجز من أن ينهضوا بالدعوة، ويوصلوها لعموم الناس، ويبلّغوهم بها ويسمعوهم صوتها، فضلاً عن أن يقنعوهم بها. ولابد مع ذلك من الاستعانة بغيرهم.

ومن الظاهر أن تمييزهم وتمييز أحد القسمين الآخرين عن الآخر أمر متعذر غالباً. بل لو أمكن صاحب الدعوة ذلك - ولو بالاستعانة بالوحي الإلهي في الدعوات الدينية - لصعب عليه إعلانه، لأنه يكون مثاراً لاتهامه بالتحيز من قِبَل بقية الأقسام، خصوصاً المغفّلين من القسم الثاني، ومثاراً للتهريج والتشنيع عليه، بحيث قد ينتهي الحال لسلب الثقة به، فيتعثر مشروعه، حتى قد ينتهي بالفشل، ويقضى عليه في مهده.

ومن هنا لم تخل دعوة يراد لها التوسع والانتشار عن الأقسام الثلاثة. كما لم نر دعوة - حقاً كانت أو باطلاً، دينية أو غيرها - طُبِّقت من غير المعصوم على أرض الواقع بحدودها وبالنحو الكامل، كما يتضح ذلك بأدنى نظرة فاحصة في الدعوات الدينية وغيرها على مدى العصور الطويلة. وما ذلك إلا لتأثر من يقوم بتطبيقها بالضغوط الداخلية والخارجية.

بل قد يضطر المعصوم لذلك نتيجة الضغوط المذكورة. غايته أنه ـ بسبب عصمته - يحسن تمييز الأولويات، ويختار الأولى منها فالأولى، مع الحفاظ على مبدئيته ونبله.

 


[1] سورة الحج الآية: ١١.

[2] سورة الأعراف الآية: ١٧٥.