نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) شيعية الاتجاه
الجهة الأولى: أن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وإن رفع شعار الإصلاح في أمة الإسلام، إلا أنه رفعه بلواء التشيع، فهو:
أولاً: يقول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية حينما أراد الخروج من المدينة: ((... وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلى الله عليه وآله). أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب...))[1].
وهو(عليه السلام) بذلك يشير إلى أن السيرة الرشيدة التي ينبغي اتباعها والتمسك بها هي سيرة النبي وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، دون سيرة غيرهما ممن استولى على السلطة.
وثانياً: يقول في كتابه إلى رؤساء الأخماس بالبصرة: ((أما بعد فإن الله اصطفی محمداً ﷺ على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به ﷺ. وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه...))[2].
وقد أكدت ذلك العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) في خطبتها الجليلة في مجلس يزيد، التي هي في الحقيقة من جملة أحداث نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وواجهاتها المضيئة.
حيث قالت (عليها السلام) منكرة على يزيد:
((فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا. فمهلاً مهلاً...))[3]. فإن كلامها هذا صريح في أن الخلافة حق لأهل البيت (عليهم السلام)، وأن السلطان الإسلامي لهم.
وثالثاً: قد استجاب لشيعته في الكوفة، ومن المعلوم من مذهبهم أن الخلافة حق لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ... إلى غير ذلك مما يجده الناظر في تاريخ نهضته الشريفة من الشواهد الدالة على أنها تبتني على استحقاق أهل البيت (عليهم السلام) لهذا المنصب الرفيع.
وهو (عليه أفضل الصلاة والسلام) بذلك وإن كان قد يخسر تأييد من يوالي الأولين، ويخفف أو يفقد تعاطفهم معه، إلا أنه (صلوات الله عليه) كان يرى أن التأكيد على مبادئ أهل البيت ومذهبهم في السلطة، وتبنيها في نهضته، أهم من تكثير المؤيدين له والمتعاطفين معه.
ولاسيما أن هدفه (عليه السلام) ليس هو الانتصار العسكري، كما سبق، بل الإنكار على الظالمين، وسلب الشرعية عنهم، والتضحية من أجل مصلحة الدين، والتذكير بمبادئه، حيث يقتضي ذلك منه (عليه السلام) إيضاح تلك المبادئ والتركيز عليها، وعلى حَفَظتها ورُعاتها، خدمة لها.
فوز التشيع بشرف التضحية في أعظم ملحمة دينية
وبذلك كسب التشيع شرف التضحية في أعظم ملحمة دينية وحركة إصلاحية في الإسلام، بل في جميع الأديان السماوية، كما يظهر من النصوص، ويشهد به التأمل والاعتبار، حيث كان لها أعظم الأثر في بقاء معالم الإسلام ووضوح حجته، وهو خاتم الأديان وأشرفها.
وقد تضمخ التشيع بتلك الدماء الزكية، وصار رمزاً للشهادة والفناء في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل دينه القويم وتعاليمه السامية، وعنواناً للإنكار على الظالمين والصرخة في وجوههم، بنحو يوجب المزيد من الشد العاطفي نحوه، والتجاوب معه. ولذلك أعظم الأثر في قوة التشيع.
بل هي نقطة تحول فيه، حيث صار له بسببها من المخزون العاطفي ما يمده بالقوة على مرّ الزمن، وشدة المحن.
فهو يزيد الشيعة إيماناً بقضيتهم، وإصراراً على مواقفهم وثباتاً عليها، ويهوّن عليهم الاضطهاد والفجائع التي تنزل بهم مهما عظمت. إذ لا فاجعة أشد من فاجعة الطف بأبعادها التي سبق التعرض لها، كما قال الشاعر:
أنست رزيتكم رزايانا التي سلفت، وهوّنت الرزايا الآتية
و فجايع الأيام تبقى مدة وتزول، وهي إلى القيامة باقية
بل جعل الشيعة (رفع الله تعالى شأنهم) يشعرون بالفخر والاعتزاز بما يقع عليهم بسبب تشيعهم من المصائب والمتاعب، ويرونها أوسمة شرف لهم، على مرّ العصور وتعاقب الدهور، فتشدّ عزائمهم، وترفع من معنوياتهم، وتمدّهم بالحيوية والطاقة.
كما تزيدهم ارتباطاً بالله عز وجل وبرسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، وتذكرهم بدينهم القويم وتعاليمه السامية وتحملهم على الرجوع إليها والتمسك بها.
نقمة الظالمين على الشيعة في إحياء فاجعة الطف
ولذا انصبت نقمة الظالمين - على مرّ التاريخ وحتى عصرنا الحاضر - على الشيعة وممارساتهم، ولاسيما إحياء فاجعة الطف، سواء بإقامة مجالس العزاء، أم برثاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أم بزيارة قبره وتشييده... إلى غير ذلك من وجوه الإحياء.
حيث يجدون في ذلك إنكاراً مبطناً من الشيعة عليهم، وصرخة في وجوههم، وتعرية لهم، وتحريضاً عليهم، بنحو قد يفقدهم رشدهم في معالجة المواقف، والتعامل معها. فيكون ردّ الفعل. منهم عليها عنيفاً، بنحو يؤكد ظلامة الشيعة والتشيع، ويعود في صالحهما على الأمد البعيد.
[1] العوالم ص: ۱۷۹، واللفظ له. بحار الأنوار ج: ٤٤ ص: ٣٢٩ - ٣٣٠، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج: ٣ ص: ٢٤١ فصل في مقتله (عليه السلام). لكن ذكره على أنه كلام للإمام الحسين(عليه السلام) خاطب به محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس لما أشارا عليه بترك الخروج للعراق.
ومن الطريف أن ابن أعثم روى الكتاب هكذا: ((... أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد، وسيرة أبي علي بن أبي طالب، وسيرة الخلفاء الراشدين...)). الفتوح لابن أعثم ج: ٥ ص: ٢٣ ذكر وصية الحسين (رضي الله عنه) لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه). وتبعه في ذلك الخوارزمي في مقتله ج: ۱ ص: ۱۸۹.
هذا ولا ينبغي الإشكال في كون هذه الزيادة موضوعة..
أولاً: لأن إطلاق عنوان (الخلفاء الراشدين) على الأولين لم يعرف في عصور الإسلام الأولى، وإنما حدث بعد ذلك في عصر العباسيين، على ما أوضحناه في أوائل المطلب الأول من المقصد الثاني فيما كسبه الإسلام بكيانه العام من ثمرات فاجعة الطف.
وثانياً: لأن ذلك لا يتناسب مع رفض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لاشتراط عبد الرحمن بن عوف في بيعة الشورى الالتزام بسيرة أبي بكر وعمر.
وثالثاً: لأن ذلك لا يتناسب مع كون أنصار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذين دعوه واستجاب لهم هم شيعته من أهل الكوفة، وموقفهم ممن تقدم على أمير المؤمنين (عليه السلام) معلوم. ولاسيما عثمان، حيث إن سيرته أثارتهم فيمن ثار عليه.
وهذا حجر بن عدي من أعيان الشيعة في الكوفة ورد في شهادة الشهود في تجريمه: ((وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب)). الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ٤٨٣ ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابها.
ولما قدم عبد الله بن مطيع الكوفة والياً من قبل عبد الله بن الزبير خطب الناس، فقال في جملة ما قال: ((وأمرني بجباية فيئكم، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين...)).
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: ((أما أمر ابن الزبير إياك أن لا تحمل فضل فيئنا عنا إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى... وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب... ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا، ولا في أنفسنا، فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضراً...)).
فقال يزيد بن أنس: ((صدق السائب بن مالك وبر. رأينا مثل رأيه وقولنا مثل قوله)).
تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٤٩٠ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ٢١٣ أحداث سنة ست وستين من الهجرة: ذكر وثوب المختار بالكوفة. ولكنه بتر كلام يزيد بن أنس. البداية والنهاية ج: ٨ ص: ۲۹۰ - ۲۹۱ أحداث سنة ست وستين من الهجرة. ولكنه أجمل الرواية مع بعض التصرف فيها. نهاية الأرب في فنون الأدب ج: ٢١ ص: ٦-٧ ذكر وثوب المختار في الكوفة. جمهرة خطب العرب ج: ٢ ص: 68 - 69 خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة.
وقريب منه في الفتوح لابن أعثم ج: ٥ ص: ٢٤٩ ابتداء خروج المختار بن أبي عبيد وما كان منه، وأنساب الأشراف ج: ٦ ص: ٣٨٣ في أمر المختار بن أبي عبيد الثقفي وقصصه، وغيرهما من المصادر.
ورابعاً: لأن المعركة في الطف قد تضمنت ما لا يناسب ذلك. ففي حديث عفيف بن زهير - وكان ممن شهد المعركة - قال: ((وخرج يزيد بن معقل... فقال: يا برير بن خضير كيف ترى صنع الله بك؟ قال: صنع الله - والله - بي خيراً، وصنع الله بك شراً. قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذاباً. هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟ فقال له برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي. فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين. فقال له برير بن خضير: هل لك؟ فلأباهلك، ولندع الله أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المبطل، ثم اخرج فلأبارزك؟ قال: فخرجا، فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحقُّ المبطلَ، ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضره شيئاً، وضربه بریر بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ، فخرّ كأنما هوى من حالق، وإن سيف برير بن خضير لثابت في رأسه. فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه...)). تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٢٨-٣٢٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.
وفي حديث هانئ بن عروة أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول: ((أنا الجملي أنا على دين علي)). قال: فخرج إليه رجل يقال له: مزاحم بن حريث، فقال: ((أنا على دين عثمان)). فقال له: ((أنت على دين شيطان. ثم حمل عليه فقتله)). تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٣١ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، واللفظ له. مقتل الحسين للخوارزمي ج: ٢ ص: ٥. وقد ذكر ابن کثیر کلام نافع من غير أن يذكر تتمة الرواية. راجع البداية والنهاية ج: ٨ ص: ١٩٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.
ومن الظاهر أن ذلك بمرأى ومسمع من الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وما كانا ليخالفانه في الرأي، فكيف يصدَّق عليه (عليه السلام) مع ذلك أن يلتزم بسيرة الخلفاء وفيهم عثمان؟!... إلى غير ذلك مما يشهد بافتعال هذه الزيادة على سيد الشهداء (صلوات الله عليه).
[2] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٢٦٦ أحداث سنة ستين من الهجرة: ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السلام) للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، واللفظ له. البداية والنهاية ج: ٨ ص: ۱۷۰ قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله.
[3] راجع ملحق رقم (٤).