عدم تبلور مفهوم التقية

وخصوصاً أن مفهوم التقية لم يتبلور بعد عند عامّة المسلمين، ولا يدركون أن الاستجابة للبيعة والسكوت عن إنكار المنكر نتيجة القسر والضغوط القاهرة لا يضفي شرعية على الوضع القائم.

ولاسيما بعد تصدي مثل حجر بن عدي الكندي وجماعته وغيرهم من وجوه الشيعة وأعيان المسلمين للإنكار، ودفعهم الثمن الغالي في سبيله، وعدم أخذهم بالتقية في السكوت عن الباطل[1].

والإمام الحسين (صلوات الله عليه) أعرف منهم بالوظيفة الشرعية، وأحرى برعاية الدين، وأقوى منهم - بنظر عامة الناس - بما يملكه من مركز ديني واجتماعي رفيع. فبيعته (عليه السلام) ليزيد تضفي الشرعية على السلطة بنظر جمهور المسلمين، ولا تحمل على التقية.

ويناسب ما ذكرنا - من عدم تبلور مفهوم التقية - أن بسر بن أرطاة لما أغار على المدينة المنورة في أواخر عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ أهلها بالبيعة لمعاوية قال لبني سلمة: ((والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله)). فلم يستوضح جابر الموقف، ولم يأخذ بالتقية حتى انطلق إلى أم سلمة زوج النبي ﷺ فقال لها: ((ماذا ترين؟ إن هذه بيعة ضلالة، وقد خشيت أن أقتل)). قالت: ((أرى أن تبايع، فإني قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايعا ...)) فأتاه جابر فبايعه[2].

وكذا ما ذكره المؤرخون من البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة من أهل المدينة بعد واقعة الحرة. قال اليعقوبي: ((ثم أخذ الناس على أن يبايعوا على أنهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به، فيقال: بايع على أنك عبد قن ليزيد. فيقول: لا. فيضرب عنقه. فأتاه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: علام يريد يزيد أن أبايعك؟ قال: على أنك أخ وابن عم. فقال: وإن أردت ان أبايعك على أني عبد قن فعلت. فقال: ما أجشمك هذا. فلما أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين (عليه السلام) قالوا: هذا ابن رسول الله ﷺ بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد))[3].

وقد منع (صلوات الله عليه) بذلك عملية القتل والإبادة الجماعية التي تعرضت لها الأمة المنكوبة، ونبّه لتشريع الله عز وجل التقية من أجل الحفاظ على المسلمين المضطهدين. وذلك بعد أن اتضحت معالم الحق، وفقدت السلطة شرعيتها بسبب فاجعة الطف ومضاعفاتها.

 


[1] لعل إصرار هؤلاء على موقفهم وعدم أخذهم بالتقية لعدم تركز المفاهيم الحقة التي كانوا يتبنوها، فأخذهم بالتقية يوجب ضياع الحق على الناس، وهو أشد محذوراً من تضحيتهم بأنفسهم. نظير موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في وقته. ولاسيما مع قرب أن تكون مواقفهم هذه قد كانت بعهد معهود من أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام)، كما يستفاد ذلك في الجملة من كثير من النصوص. وللكلام مقام آخر.

[2] الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ۳۸۳ أحداث سنة أربعين من الهجرة: ذكر سرية بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن. تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ١٠٦ في أحداث سنة أربعين من الهجرة. الاستيعاب ج: 1 ص: ١٦٢ في ترجمة بسر بن أرطأة، البداية والنهاية ج: ٧ ص: ٣٥٦ أحداث سنة أربعين من الهجرة. شرح نهج البلاغة ج ۲ ص: ۱۰. ونحوه في كتاب الثقات ج ۲ ص: ۳۰۰، وتاریخ دمشق ج: ۱۰ ص: ١٥٢ - ١٥٣ بسر بن أبي أرطأة، وتهذيب الكمال ج: ٤ ص: ٦٥ في ترجمة بسر بن أرطأة، وغيرها من المصادر الكثيرة.

[3] تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: ٢٥٠ - ٢٥١ مقتل الحسين بن علي.