ويقي هناك ثلة من المسلمين من ذوي الدين والمثل، أو ممن يتظاهرون بذلك، ينظرون لما يجري على مضض. وعمدة ما يشغل بالهم ويقلقهم، أو يظهرون القلق من أجله، هو انحراف السلطة، وخروجها عن تعاليم الدين، وظلمها وطغيانها، واستئثارها، وما يجري مجرى ذلك.
أما مسألة تحريف الدين وضياع معالمه فلا يظهر منهم التوجه له والاهتمام بأمره والحديث حوله، فضلاً عن العمل لمنعه.
ونتيجة لذلك ينحصر الإصلاح بنظرهم بتغيير السلطة، وجعل الخلافة في موضعها المناسب لها، كسلطة دينية ترعى الدين وتعاليمه، ويهمها أمر المسلمين وصلاح أمرهم.
وقد يرشح لذلك، أو يتصدى للمطالبة به جماعة. وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو الرجل الأول في المسلمين ديناً ومقاماً وقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله)، كما أوضحناه عند الكلام في أبعاد فاجعة الطف.
وهؤلاء النفر القليل على قسمين:
من يرى إمكان إصلاح السلطة وتعديل مسارها
الأول: من يرى التفكير في ذلك عملياً، ويحاول السعي له، إما بمكر ودهاء، أملاً في المكاسب المادية، والوصول المراكز النفوذ وصنع القرار بعد التغيير، وإما بحسن نيّة، نتيجة الموقف الانفعالي من الفساد الذي حصل، وبتخيل وجود الآلية الكافية للصراع مع الوضع القائم.
ومن الصنف الثاني خواص الشيعة في الكوفة الذين كانوا يستثيرون الإمام الحسين (عليه السلام) بعد موت الإمام الحسن(عليه السلام)، كما استثاروا الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من قبل. وكانوا يرون أن في موت معاوية فرصة لا ينبغي تضييعها.
من يرى تجنب الاحتكاك بالسلطة حفاظاً على الموجود
الثاني: من يرى أن التفكير في ذلك غير عملي، وأن الموازنة بين القوى لا تسمح به بعد ما انتهى إليه وضع المسلمين، بسبب انحراف مسار السلطة وما ترتب عليه من مضاعفات، وآخرها سياسة معاوية السابقة.
ولاسيما أن الفشل العسكري الذي منيت به تجربة الإصلاح وتعديل مسيرة السلطة في الإسلام، التي قادها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، أوجب الإحباط عند الخاصة الذين من شأنهم الموازنة بين القوى وعدم الاندفاع العاطفي في اتخاذ المواقف.
حيث لا يتوقع أن يأتي قائد أفضل من أمير المؤمنين (عليه السلام) علماً بالدين، وإخلاصاً لقضيته، والتزاماً بالمبادئ، وشجاعة، وصلابة في الموقف، وسابقة، وأثراً في الإسلام. ولا أظهر شرعية منه عند الكل بعد تمامية بيعته باختيار عامة المسلمين.
حتى إنه لا إشكال عند أهل العلم والمعرفة أخيراً في شرعية خلافته، وبغي الخارجين عليه، ووجوب قتالهم. كما ذكرنا بعض ما يتعلق بذلك في أواخر الكلام في المقام الأول.
كما لا يتهيأ أنصار أكثر من أنصاره ولا أفضل، حيث بايعه عن قناعة تامة الكثرة الكاثرة من المسلمين، وفيهم العدد الكثير من المهاجرين والأنصار وذوي السابقة والأثر الحميد في الإسلام، ومن أهل النجدة في العرب، وذوي المقام الاجتماعي والنفوذ فيهم، والذين لهم الأثر الكبير في فتوح الإسلام. وقد قدموا من أجل دعمه (عليه السلام) ونجاح مشروعه أعظم التضحيات.
وأيضاً لا يتوقع - بمقتضى الوضع الطبيعي - أن يأتي زمان أفضل من زمانه(عليه السلام)، لقربه من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والتعرف على تعاليمه، ووجود الكثرة الكاثرة من صحابته.
وقد أكدت الأحداث المتلاحقة ذلك، حيث لم يسجل تاريخ الإسلام نجاح حركة إصلاحية حقيقية - تلتزم المبادئ في أهدافها، وفي وسائل نجاحها في صراعاتها، محافظة على نقائها واستقامتها - وبقاءها مدة أطول من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
ويعلم أهل المعرفة أن انهيار مشروعه (صلوات الله عليه) عسكرياً إنما تسبب عن التزامه بالمبادئ وحرفية التشريع، واستغلال خصومه ذلك، ومحاولتهم الخروج عنها، والالتفاف عليها، في وسائل صراعهم معه، وفي تثبيت سلطانهم بعده، لوجود الأرضية الصالحة لتقبل ذلك من عامة الناس، لعدم استحكام الدين والمبادئ في نفوسهم، وثقل الأمانة والاستقامة عليهم.
ولا يتوقع صلاح المجتمع الإسلامي بعد أن دخله الفساد. بل كلما زادت ألفتهم له زاد استحكامه فيهم، وتعذر تطهيرهم منه.
نعم يمكن أن يغلب الباطل بباطل مثله في المكر، وانتهاك الحرمات والخروج عن المبادئ والقيم والالتفاف عليها. كما حصل. والدنيا دول.
ونتيجة لذلك كان توجه هؤلاء النفر إلى المحافظة على الموجودين من ذوي الدين والصلاح بتجنب الاحتكاك بالحاكم، لأن ذلك غاية الميسور.
وربما يكون ذلك هو المنظور لكثير ممن أشار على الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بترك الخروج على يزيد، ومنهم عبد الله بن جعفر، كما يظهر من كتابه للإمام الحسين (عليه السلام) الذي تقدم التعرض له في المقصد الأول.
بل كلما زاد الاحتكاك بالحاكم، وتحقق منه التجاوز عن الحدّ في الرد، زاد جرأة على انتهاك الحرمات، وأبعد في التجاوز عليها، وتعود الناس على ذلك وألفوه، وخفّ استنكارهم له.
فكيف إذا كان المنتهك حرمته هو الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) الذي هو أعظم الناس حرمة، والرجل الأول في المسلمين؟! كما يشير إلى ذلك ما تقدم منه (صلوات الله عليه) في المعركة، ومن عبد الله بن مطيع في حديثه معه (عليه السلام) وغير ذلك.
وربما تُدعم وجهة نظر هؤلاء بأمرين:
الأول: الحذر من شق كلمة المسلمين وتفريق جماعتهم، وإلقاح الفتنة بينهم، الذي قد يتشبث به الكثير جهلاً، أو نفاقاً وممالأة للظالم.
الثاني: طلب العافية جبناً، أو لعدم الشعور بالمسؤولية.