قد يتساءل البعض ما هي الأسباب التي أدّت إلى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) وما الحكمة في غيبته (عليه السلام) عن شيعته؟
وجوابه: أنه قد تحدّث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عن أسباب غَيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، فذكروا جملة أمور، نعرض لها هنا بإيجاز:
1 ـ الخوف من القتل: روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لزرارة: (إنّ للغُلام ـ يقصد الإمام الحجّة (عليه السلام) ـ غَيبةً قبل أن يقوم)، قال زرارة: ولِمَ ؟ قال (عليه السلام):
(يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه... الخبر) [1].
وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ من الأنبياء (عليهم السلام) مَن فرّ واعتزل عن أمّته مخافة القتل، ورجاء لنشر رسالته بعد ذلك، قال عزّ وجل - عن النبيّ موسى ابن عمران (عليه السلام) لما فرّ إلى مصر وورد على شُعيب -: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ... )[2]، وقال عزّ وجل -على لسان مؤمن آل فرعون -: (إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ...)[3]، وحدثنّا عن نبيّنا الكريم (صلى الله عليه وآله) أنّه اعتزل في الغار حين أرادت قريش قتله، فأمره تعالى بالهجرة إلى المدينة.
2 ـ لئلاّ يكون في عُنقه (عليه السلام) بيعة لظالم: روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) ـ في حديث ـ أنّه سُئل عن علّة غَيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، فقال: ( .... لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف )[4]، وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ( يقوم القائم وليس لأحد في عنقه بيعة ) [5].
ومن الطبيعي أنّ عدم وجود بَيعة لأحد في عُنق الإمام المهدي(عليه السلام) سيكفل له الحريّة في الدعوة والاستقلال بالأمر، لأنّ من لوازم الوفاء بالبيعة مماشاة هؤلاء وترك التعرّض لهم، ونحن نعلم أنّ الإمام المهدي(عليه السلام) إذا أذِن الله تعالى له بالظهور، فإنّه سيُظهر العدلَ ويستأصل الظلم والفساد، ويُظهر الله تعالى على يده الإسلام على باقي الأديان، وهو ممّا يتطلّب حريّة في العمل غير محدودة ببيعة لظالم.
3 ـ الامتحان: عن محمد بن منصور، عن أبيه قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام)
جماعة نتحدث فالتفت إلينا فقال(عليه السلام): (في أيّ شيء أنتم؟ أيهات أيهات[6] لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا (لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا) لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم إلا بعد إياس، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى يشقى من شقي ويسعد من سعد)[7].
ولقد امتحن اللهُ تعالى الأممَ السابقة بأمور مختلفة، منها غَيبة أنبيائهم الكرام، وقدّر لهذه الأمّة الخاتمة ـ جرياً على سُننه التي لا تتغيّر ـ أن تُمتحن بغيبة إمامها المنتظر (عليه السلام)، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ...)[8]، وروى سعد بن عبد الله، عن أبي محمد الحسن بن عيسى العلوي قال: حدثني أبي عيسى بن محمد، عن أبيه محمد بن علي بن جعفر، عن أبيه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: قال لي: ( يا بني إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة فالله الله في أديانكم، فإنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة يغيبها حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، يا بني إنما هي محنة من الله امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم دينا أصح من هذا الدين لاتبعوه، قال أبو الحسن: فقلت له: يا سيدي من لخامس من ولد السابع؟ قال: يا بني عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله ولكن إن تعيشوا تدركوه )[9].
4 ـ تأديب الأمّة وتنبيهها إلى رعاية حقّ الإمام: ذلك أنّ الأمّة إذا لم تَقُم بواجب حقّ الرسول أو الإمام، وإذا عصت أوامره ولم تمتثل نواهيه، جاز له تركُها والاعتزال عنها تأديباً لها، لعلّها تعود إلى رُشدها بعد غيّها، ويُشير إلى هذا قولُه تعالى: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي ...) [10].
عن مروان الأنباري قال: خرج من أبي جعفر(عليه السلام): ( إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم)[11]، وروي عن الإمام الحجّة (عليه السلام) في رسالةٍ وجّهها للشيخ المفيد: (ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم اللهُ لطاعته ـ على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهدِ عليهم، لَما تأخّر عنهم اليُمْن بلقائنا ...)[12].
5- الحكمة الإلهيّة: يبقى السبب الأهمّ للغَيبة راجعاً إلى الحِكمة الإلهيّة، فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) يقول: (إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل)، فقلت له ولِم جعلت فداك؟ قال (عليه السلام): (لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم ) قلت فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال (عليه السلام): (وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى(عليه السلام) إلا وقت افتراقهما يا بن الفضل: إن هذا الأمر أمر من أمر الله وسر من سر الله وغيب من غيب الله ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدّقنا بأن أفعاله كلها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا)[13]، وروي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال ـ في حديث: (يا جابر، إنّ هذا أمر من أمر الله، وسرّ من سرّ الله، مطويّ عن عباد الله، فإيّاكَ والشكّ فيه، فإنّ الشكَّ في أمر الله عزّ وجلّ كفر)[14].
[1] الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص337.
[2] سورة الشعراء: آية 21.
[3] سورة القصص: آية20.
[4] كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص480.
[5] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص96.
[6] أيهات بمعنى هيهات بقلب الهاء همزة، مثل هراق وأراق.
[7] الغيبة للشيخ الطوسي: ص336.
[8] سورة التوبة: آية16.
[9] الغيبة للشيخ الطوسي: ص167.
[10] سورة مريم: آية 48.
[11] علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج1،ص244.
[12] الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج2، ص930.
[13] علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج1، ص246.
[14] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج2، ص54.