قيام الحوزات العلمية الشيعية ومميزاتها

وبذلك قام للشيعة كيان علمي وثقافي متميز، حملته وحافظت عليه الحوزات العلمية في مختلف بقاع الأرض التي يتواجد فيها الشيعة.

وقد رعى الأئمة (صلوات الله عليهم) هذه الحوزات مدة تزيد على قرنين ونصف، ووضعوا الضوابط العامة لها، وراقبوا مسيرتها، حتى تاقلمت مع نهجهم (عليهم السلام) وحملت بصماتهم، وتفاعلت مع مفاهيمهم، بحيث أمنوا عليها من الزيغ والانحراف.

ونتيجة لذلك تميزت هذه الحوزات بالاهتمام بالبحث عن الحكم الشرعي، وأخذه من مصادره الأصيلة وحججه المعذرة بين يدي الله تعالى، وبالحفاظ على حدوده وحرفيته، بعيداً عن التخرص والتسامح، وعن التأثر بالجهات الخارجية من سلطان أو عرف اجتماعي أو غير ذلك، جرياً على نهج أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والتزاماً بتعاليمهم الموافقة للفطرة، وحكم العقل السليم.

تحديد الاجتهاد عند الشيعة

وذلك هو الاجتهاد الذي بقي مفتوحاً عند شيعة أهل البيت أعز الله دعوتهم، واستمروا عليه هذه المدة الطويلة. وليس الاجتهاد عندهم تطويع الحكم الشرعي لأوضاع المجتمع القائمة وتطبيعه وتحويره بما يتناسب مع الظروف المختلفة، والمؤثرات الطارئة.

وبذلك أمِن الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) على تعاليمهم الشريفة وثقافتهم السامية من الضياع والتحريف والتحوير.

ولهذا أمكن وقوع الغيبة الكبرى بانقطاع خاتم الأئمة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عن الاتصال المباشر بالشيعة، لاكتفاء الشيعة بما عندهم من تعاليم وثقافة دينية تقوم بها الحجة عليهم، وعلى الناس من مختلف الفئات والأديان والمذاهب (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)[1].

وكأنه إلى ذلك يشير حديث المفضل بن عمر قال: ((قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك. فان متّ فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم))[2].

ظهور المرجعيات الدينية بضوابطها الشرعية

وقد انبثقت من تلك الحوزات - نتيجة الحاجة الملحة، خصوصاً بعد الغيبة الكبرى - المرجعيات الدينية، بضوابطها الشرعية المعذرة بين يدي الله عز وجل.

وعمدة تلك الضوابط - بعد العلم بأحكام الدين - العدالة بمرتبة عالية تناسب ثقل الأمانة التي يعهد فيها للمرجع، وهي دين الله تعالى القويم، حيث يتعرض المرجع لضغوط نفسية وخارجية كثيرة في عملية الوصول للحكم الشرعي، وفي الفتوى وتثقيف عموم المؤمنين به.

فلابد من قوة العدالة، تبعاً لشدة الخوف من الله عز وجل، لتكون حاجزاً دون الانحراف أمام تلك الضغوط ومانعاً من الاستجابة لها مهما اشتدت.

بعض الأحاديث في ضوابط التقليد

وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه بعد أن ذمّ اليهود بتقليدهم لعلمائهم قال: ((وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقاً، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم.

فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم. فإنه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة، فلا تقبلوا منّا عنه [منهم عنا.وسائل] شيئاً، ولا كرامة...)) [3].

وكان نتيجة ذلك أمور:

ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية عملياً وعاطفياً

أولها: ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية عملاً، لحاجتهم لها، بسبب شمولية التشريع الإسلامي لجميع شؤون الإنسان ومفردات حياته.

ثانيها: ارتباطهم بمرجعياتهم المذكورة عاطفياً ولاءً واحتراماً، بسبب اعتقادهم بتدينها، بحيث تكون أهلاً لائتمانهم لها على دينهم، فكأنها واجهة لأئمتهم (صلوات الله عليهم)، وممثلة لهم (عليهم السلام).

ولاسيما مع شعور هذه المرجعيات بمسؤوليتها إزاء المؤمنين، في إصلاح أمرهم، وتوحيد كلمتهم، وعلاج مشاكلهم، وتخفيف أزماتهم، ومواساتهم، ومدّ يد العون لهم، حيث أوجب ذلك الشعور المتبادل بأبوة المرجعية الدينية، وتوثق الروابط بينها وبين المؤمنين.

ثالثها: أن للثقافة الدينية والحكمة والتقوى والإخلاص والاهتمام بصلاح الدين والمؤمنين أعظم الأثر في تقريب وجهات النظر بين مراجع الدين في أداء وظيفتهم، وتخفيف حدّة الخلاف بينهم، بنحو يؤدي إلى موقف موحد أو شبه موحد في توحيد الشيعة ومعالجة مشاكلهم، بالرغم من فتح باب الاجتهاد، وتمتع الجميع بالحرية في اختيار المواقف المناسبة.

قيادة المرجعية للأمة

وبذلك استطاعت المرجعية الشيعية قيادة الأمة وتوحيدها في عصر الغيبة الطويل، حيث لا إمام ناطق تجب طاعته، ولا يتمتع المرجع - واحداً كان أو أكثر - بقوة مادية قاهرة ترغم على متابعته.

نعم لاريب في أن للتسديد الإلهي أعظم العون على ذلك، مشفوعاً برعاية إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، الذي يكون الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا جلّلها السحاب.

العمق التاريخي للمرجعية

ومن الملفت للنظر أن هذه المؤسسة بقيت ما يقرب من أربعة عشر قرناً مستمرة في فاعليتها وعطائها، محافظة على وظيفتها وأهدافها واستقامتها. رغم كل المعوقات والمثبطات الداخلية والخارجية التي تعرضت لها في تاريخها الطويل. وهي حالة فريدة من بين المؤسسات الأخرى الدينية وغيرها.

ويزيد في العجب أنها في مدة أحد عشر قرناً من مبدأ الغيبة الكبرى تفقد القوة الملزمة مادياً أو دينياً، بل تعتمد على القناعة الشخصية من المرجع والأتباع بأداء الواجب والقيام بالوظيفة الشرعية، مع ما هو المعلوم من تعرض وجهات النظر للاختلاف.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسدد المرجعيات ويمدها - ببركة إمام العصر (صلوات الله عليه) - بالتوفيق للثبات على السير في الطريق المستقيم، ويوفق المؤمنين للتجاوب معها والتلاحم، من أجل أداء الوظيفة، والخروج عن التكليف الشرعي. إنه المسدد للحسنات، والعاصم عن السيئات، والناصر للمؤمنين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 


[1] سورة الانفال الآية: ٤٢.

[2] الكافي ج ١ ص: ٥٢ . كشف المحجة لثمرة المهجة ص: ٣٥. وسائل الشيعة ج: ١٨ ص: ٥٦.

[3] الاحتجاج ج: ٢ ص: ٢٦٤، واللفظ له، وسائل الشيعة ج: ١٨ ص: ٩٥.